كشفت التحقيقات الجارية في تفجيرين داميين تعرضت لهما أخيراً مدينة طرابلس في شمال لبنان ما يعرفه سائر اللبنانيين من ان أجهزة الاستخبارات السورية لا تزال لها يد طولى في هذا البلد وأنصار وعملاء ينفذون رغباتها حتى لو كانت توصل الى الفتنة. فالعمالة بالنسبة الى هؤلاء خيار طائفي وسياسي قبل ان تكون عملاً مأجوراً.
ويرى معظم اللبنانيين عن حق ان وضع بلدهم مرتبط الى درجة التماهي الخانق بالاوضاع في سورية، وان معاناتهم من طبائع الحكم في دمشق لم تبدأ مع دخول الجيش السوري الى لبنان في منتصف السبعينات ولم تنته مع خروجه منه قبل سنوات، بعد عقود من الهيمنة والاشراف المباشر على شؤونهم الكبيرة والصغيرة، بما في ذلك حربهم الاهلية التي أدارها النظام السوري بنجاح طيلة خمسة عشر عاماً وتقاطعت فيها مصالحه مع مصالح الاميركيين والاسرائيليين.
وهم مقتنعون بأنه إذا اقترب الاسد من خسارة الحرب ضد شعبه فسينتقم من لبنان، وإذا ربح سينتقم من لبنان، وإذا ظل وضعه معلقاً دفع لبنان الثمن من استقراره، وإذا دُفع الى الرحيل تحمل لبنان عبء تمسكه بالحكم، وإذا مال نحو الاستمرار سدد لبنان فاتورة التسوية الدولية لبقائه.
ويشعر اللبنانيون اليوم أكثر من سواهم من جيران سورية، بالأزمة الانسانية المستفحلة في هذا البلد، ويعانون من تبعاتها على كل صعيد. لكن ما يقلقهم هو الخلفية السياسية التي تحكم وصول هؤلاء بأعداد ضخمة رغم شكوى الدولة اللبنانية، في تقييم غير مسيّس، من عدم قدرة مؤسساتها على تلبية حاجات رعايتهم. ذلك ان الحكم ومعظم المعارضة في سورية، على السواء، ينطلقان من فرضية ان لبنان «لنا» و «يخصنا» و «لا بأس ان تحمل وزر حربنا الاهلية» لان هذا «واجبه»، فلا يفعلان ما يمكن ان يخفف الدفق البشري الذي يفوق طاقته، ولا يسلمان بحقه في اتخاذ أي اجراءات للحد من فيضان النزوح مثلما فعلت تركيا والاردن حفاظاً على مصالحهما.
وبالنسبة الى اللبنانيين فإن تغيير النظام في دمشق لا يعني بالضرورة اعفاءهم من فائض «الأخوة» الذي قد يغرقهم هذه المرة في محاسبات تجد تبريرها في تدخل «حزب الله» الفج في اقتتالهم.
كأنه مقدر للجار الصغير ان يظل معرضاً للمد والجزر السوريين من دون أي حساب لاستقلاله وسيادته اللذين لم يتحققا فعلاً منذ اعلانهما قولاً قبل سبعين عاماً. ويزيد من عبثية هذا الوضع، ان اللبنانيين بطوائفهم واحزابهم ومناطقهم وعائلاتهم منقسمون في كل شأن، وخصوصاً في شأن العلاقات مع سورية، ما يحول دون اتفاقهم ولو على البديهيات الوطنية المعترف بها في أي دولة، ويفتح الباب واسعاً امام تدخلات الخارج واستنساباته، من دون أي احتمال لخلاص قريب.
انها «توأمة» قسرية لم تنفع معها حدود معترف بها دولياً ولا قوانين ولا معاهدات، وستظل سارية الى ان تتغلب فكرة حياد لبنان عند اللبنانيين أولاً قبل ان «يقتنع» بها السوريون لاحقاً، وطالما ان هناك بين مسؤولي هذين البلدين ومواطنيهم من لا يزال يعتبر استقلال لبنان «إرثاً استعمارياً» ومن يؤمن بشعار «سورية أولاً» ويعمل بهديه.