خطوة إلى الأمام، خطوة إلى الوراء. خطوة إلى اليمين، خطوة إلى اليسار. هكذا تتقدم حركة «النهضة» في تونس من استقالة حكومة علي العريض بوصفها المقدمة الوحيدة المقبولة لحوار جدي يليه تغيير فعلي. ولا يخفى أن وراء هذين التعثّر والمراوحة أكثر من خلاف داخل الحركة الإخوانية التونسية.
والحال أن الذين يريدون تقديم تنازلات حقيقية هم الأكثر انتباهاً إلى حقائق صار من الصعب التكتم عليها، فإلى الفشل السياسي والاقتصادي لحكم «النهضة»، هناك الانهيار «الإخواني» الذي شهدته مصر، والهزة التي تعرض إليها «الإخوان» الأتراك، وربما أيضاً حال إسلاميي عمر البشير في السودان، الذين يواجهون صعوبات متزايدة في الحفاظ على وحدة حزبهم الحاكم نفسه. وهناك إلى ذلك، نصائح الأميركيين والأوروبيين للغنّوشي وصحبه، وهي نصائح يترتب على الأخذ بها أو عدمه نتائج اقتصادية مباشرة. والشيء نفسه يمكن قوله عن البورجوازية التونسية ذات المصلحة المؤكَّدة في الاستقرار.
لكن هذه الاعتبارات الوازنة ليست، على ما يبدو، كافية لحمل حزب سلطوي يبالغ في تأويل التفويض الشعبي الذي أعطي له، على التنازل عن بعض السلطة، هذا مع العلم بأن إقدام «الإخوان» التونسيين على خطوة كهذه سوف يندرج في الجهد المطلوب لإنقاذ «الإخوان»، فهم -كائناً ما كان الموقف منهم- يبقون جزءاً صلباً من الخريطة التمثيلية في عدد من البلدان العربية، ويبقى إنقاذهم من أنفسهم تالياً شرطاً من شروط الاستقرار السياسي وتسهيل عملية العبور التي تحف بالمرحلة الانتقالية الراهنة.
فوق هذا، يسع «إخوان» تونس، إذا ما أقدموا، أن ينقذوا «الربيع العربي» نفسه، هو الذي تتراجع عائداته ويشحب وجهه، فما بين أوضاع مصر التي انعكس آخر تعابيرها السوداء في الصدامات الدامية يوم 6 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، وصعود «داعش» و «النصرة» وأضرابهما في سورية على حساب القوى الموصوفة بالاعتدال، والمناعة التي تُبديها التركيبة القَبَلية– الميليشياوية في ليبيا، تتعاظم الأسباب التي تحض على علاج ذاك «الربيع» وتقويمه.
تونس قد تكون الأكثر تأهيلاً للقيام بهذا الدور، لأسباب كثر الحديث عنها والنقاش فيها، ذاك أن المهد الأول للثورات العربية هو أيضاً مسرح التحديث البورقيبي في انعكاسه على التعليم وأوضاع المرأة وتوسيع الطبقات الوسطى ودور الحركة النقابية، هذا فضلاً عن وجود أكثرية دينية ومذهبية صريحة وكاسحة، وعن بُعد تونس من بؤر التوتر الإقليمي (إسرائيل، إيران…) التي تملك طاقة هائلة على تحويل الثورات إلى أزمات إقليمية.
لكن تونس و «إخوانها»، ولا سيما بعد ما حصل في مصر، يملكون ميزة أخرى هي ضمور دور الجيش وانعدام التقاليد السياسية لديه، ناهيك عن ضعف المصالح الاقتصادية لدى المؤسسة العسكرية هناك، وهذا يُغري بافتراض القدرة على نزع الحكم «الإخواني» من دون الوقوع في الانقلاب العسكري، فإذا قُدر لمثل هذا الخيار أن يكون، تكون تونس قدمت نموذجاً يستحق أن يتباهى به التونسيون، بمن فيهم «الإخوان» الذين مازالوا يترددون.