مدهشٌ مدى الفرح الممانع بـ «الاختراق» الذي شهدته العلاقات الأميركيّة – الإيرانيّة، أو في تسمية أخرى أشدّ صراحة وإشهاراً: «التقارب الأميركيّ – الإيرانيّ».
وهذا من قبيل تباهي الصلعاء بشعر جارتها، لكنّه، فوق ذلك، ينطوي على نسيان أنّ أميركا… «عدوّ». المهمّ، إذاً، أن تنتقل هذه الأميركا إلى صفّ إيران، والباقي تفاصيل. ومن يدري، فقد نشهد غداً، أو بعد غد، إشارة أو إشارتين إسرائيليّتين توحيان للممانعين أنّ الدولة العبريّة نفسها تمارس «التقارب» مع إيران. وهذا، في حال حصوله، يمكن أن يرتقي بالفرح إلى مصاف اللذّة.
إنّ في هذا شيئاً من عقليّة القبائل والعصبيّات التي تغلّب على كلّ مبدأٍ مبدأَ انتصارها على قبائل وعصبيّات مقابلة، وكفى المؤمنين الإيديولوجيا ومعاداة الإمبرياليّة والصهيونيّة!
على أنّ ذلك كلّه لا يعدو كونه اصطهاجاً بزواج فيل من نملة. وما التشبيهان اللذان انتشرا بعد تلك المكالمة الهاتفيّة بين باراك أوباما وحسن روحاني سوى دليل على الجهل، لا بأميركا وإيران وحدهما، بل أيضاً بالصين وروسيّا.
فقد شُبّهت تلك المكالمة بزيارة ريتشارد نيكسون إلى الصين الشيوعيّة وانفتاحه عليها، كما شُبّهت بالانعطافة الإيجابيّة التي أقدم عليها رونالد ريغان حيال روسيّا السوفياتيّة في عهد ميخائيل غورباتشوف. وقد فات أصحابَ التشبيهين هذين أنّ الصين آنذاك، في 1972، كانت قد خرجت من حرب حدوديّة مع الاتّحاد السوفياتيّ في 1969، ومذّاك وهي تتبع سياسة مناهضة لموسكو، وأقرب إلى واشنطن، في غير بقعة من بقاع الأرض. أمّا غورباتشوف، فلم ينقض غير أشهر على تولّيه الأمانة العامّة للحزب الشيوعيّ السوفياتيّ في 1985، حتّى باشر سحب قوّاته من أفغانستان، بعدما اقترح تصفية الأسلحة النوويّة ذات المدى المتوسّط في أوروبا.
بلغة أخرى، جاء التقاربان الأميركيّان مع الصين، أوائل السبعينات، ومع روسيّا، أواخر الثمانينات، تتويجاً لتحوّلات كبرى، وذات أثر كونيّ، أقدمت عليها القيادتان الصينيّة والسوفياتيّة وجنت منها الولايات المتّحدة مكاسب هائلة.
صحيحٌ أنّ الاتّفاق على تنظيم الخلاف مع إيران قد يكون مطلباً أميركيّاً، كما قد يُغري واشنطن توفير هامش ضيّق للتلاقي في مواجهة «الأصوليّة السنّيّة»، بما يذكّر بالتلاقي الجزئيّ الذي حصل قبلاً حول العراق وأفغانستان. وما من شكّ في أنّ الأوباميّة، بنزوعها الراسخ إلى تجنّب المواجهات العسكريّة، مولعة باستكشاف كل الفرص المتاحة لحلّ النزاعات سلماً، أو مداورتها وتدوير زواياها، ولو بشيء من التوهّم والرغبويّة.
إلاّ أنّ هذا شيء والاختراق والتقارب، ناهيك عن الرضوخ الأميركيّ لإيران، شيء آخر. ففضلاً عن امتداد الخلاف من إسرائيل، التي توالي الضغط بقدر بادٍ من العصبيّة طلباً لمزيد من التشدّد مع طهران، إلى سوريّة، إلى الخليج، لم تقدّم إيران شيئاً يُذكر ممّا يوحي بإعادة النظر. وليس مؤكّداً حتّى اليوم أنّ الرئيس روحاني يحظى بتفويض جدّيّ من الحاكم الفعليّ خامنئي، هو الذي انتقده «الحرس الثوريّ» بقسوة واستقبله، لدى عودته من نيويورك، حذاء لا يمكن أن يشرد على هواه في بلد كإيران.
أمّا أن يقال، بعد هذا، إنّ الولايات المتّحدة رضخت مقابل اللاشيء الإيرانيّ، فيما إيران معاقَبة وجائعة، فهذا خليط من عقليّتين كثيراً ما اختلطتا عندنا: تلك التي رفعت حرب تمّوز (يوليو) 2006 إلى «انتصار إلهيّ»، وتلك التي ترى العالم حقلاً لـ «الصفقات»، كما ترى السياسة إدارة لها.