ثلاثة وأربعون عاما مضت بالتمام والكمال أمس الأول -السبت- على غياب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وهو غياب قسري للجسد بحكم الموت. لكنه ما زال يشكل رقما مهما في المعادلة الوطنية والقومية للمحروسة. والتي شهدت على مدى الأيام الثلاثة الأخيرة اهتماما خاصة بالمناسبة ربما هي المرة الأولى منذ رحيله تجلى في تغطية موسعة لها بوسائل الإعلام الرسمية واستمع الناس لصوت عبد الناصر مسجلا فأعاد لهم زمنا جميلا بدأ في الثالث والعشرين من يوليو 1952 وامتد حتى الثامن والعشرين من سبتمبر 1970 عندما فاجأه الموت في وقت كانت فيه المحروسة تترقب أن يجنى ثمار جهد مدهش بذله في إعادة بناء القوات المسلحة على أسس جديدة بعد هزيمة يونيو 1967 وهو ما تحقق في السادس من أكتوبر 1973 عندما أنجز الجيش المصري انتصارا تاريخيا ومستحقا على عدو كان يظن أن جيشه غير قابل للقهر أو الهزيمة
وعبد الناصر بالنسبة لي ولملايين من أمثالي هو الزعيم الذي قاد ثورة انحازت منذ انبثاقها للمواطن البسيط الذي يشكل أغلبية سكان المحروسة ولم ينتظر مرحلة انتقالية أو الانتهاء من بناء المؤسسات الجديدة فبادر على الفور في بلورة الخطوات العملية التي تترجم أفكار ومبادئ الثورة إلى الواقع ولعلنا نتذكر أن أول خطوة عملية تبنتها ثورة 23 يوليو تجسدت في إصدار قانون الإصلاح الزراعي في التاسع من سبتمبر أي بعد انطلاقها بحوالي شهر ونصف فأدرك الناس صدقيتها وصدقية القائمين عليها فانتموا إليها ودافعوا عنها ثم تدفقت القرارات والتحولات التي حققت نقلة نوعية في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبدا أن ثمة مشروعا للنهوض واضح القسمات والمعالم وله أبعاده الوطنية والقومية بل والعالمية مستهدفا بناء دولة عصرية مدنية حديثة تقوم على استقلالية قرارها الوطني وتعظيم إنتاجها ومواردها وبناء مواطنها وفقا لمحددات تنأى به عن ثلاثية الجهل والمرض والفقر التي ظلت سائدة في المحروسة رغم مشروعات التحديث التي تحققت خلال حكم أسرة محمد على والتي تراخت قبضتها في السنوات الأخيرة وانحازت – خاصة في عهدي فؤاد وفاروق- إلى خيارات غير وطنية وراهنت على المحتل الأجنبي الذي باتت له السطوة والكلمة الأولى والأخيرة في مقادير البلاد وصياغة توجهاته الداخلية والخارجية والتي تجردت تماما من أي نزوع وطني أو اجتماعي فتحكمت طبقة الملاك والنخب السياسية المرتبطة بالقصر وبالاحتلال والتي تشكل نسبة 5ر2 في المائة في أكثر من 95 في المائة من ثروات ومقدرات الوطن.
والميزة النسبية لزمن جمال عبد الناصر تكمن في أنه حدد إطارا لم يحد عنه وهو الارتقاء بالمحروسة ودفعها لتتصدر المكان والمكانة التي تليق بتاريخها وشعبها ونسقها الحضاري فسعى جاهدا في هذا الاتجاه وأدرك أن ذلك لن يتحقق إلا عبر بوابة التعليم بداية ففتحه للجميع بالمجان فتغيرت الخارطة الاجتماعية للمحروسة وذابت الفوارق بين الطبقات وتكونت الطبقة المتوسطة التي شكلت المرتكز الأساسي للتنمية في السنوات القادمة ولمشروع نهوضه كما أطلق العنان للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وفق منهجية محددة تنهض على التخطيط وقام بتنفيذ خطتين خمسيتين أسفرتا عن معدلات نمو عالية وتزامن ذلك مع بناء السد العالي وهو المشروع المدهش الذي شكل قاطرة مشروع التنمية بعد إنجازه ثم أقام منظومة تصنيع في أنحاء البلاد.
بالطبع لست هنا في موضع استعراض إنجازات الزعيم الخالد جمال عبد الناصر لكنها إطلالة على زمنه الذي اختلطت الحس الوطني بالمشاعر القومية فتحولت المحروسة إلى محرك للعروبة من دون شوفينية وسعى إلى تحرير الأقطار العربية التي كانت تخضع للاحتلال وهو ما وضعه في خانة الخصوم للغرب لاسيَّما بعد قراره النوعي بتأميم قناة السويس ردا على رفض البنك الدولي والغرب منحه القروض التي من شأنها مساعدة مصر في بناء السد العالي
إن جمال عبد الناصر رمز لمرحلة مهمة في التاريخ العربي والعالمي وتمكن بحرفية عالية وبضمير وطني شديد اليقظة من بناء دولة كان بوسعها لولا كثافة التآمر عليها إقليميا وعالميا أن تتحول إلى نمر اقتصادي وأسد سياسي ولكن القوى المتحكمة في مقادير العالم لا تسمح أبدا لمصر بالذات أن تصبح القوة الأهم في المنطقة فجاءت مؤامرة العام 1967 وهى زاخرة بالأسرار والوثائق التي تكشف أهدافها في القضاء على مصر عبد الناصر الدولة الواعدة والقادمة لقيادة الإقليم وفقا لما كشف عنه الأستاذ محمد حسنين هيكل في سلسلة من الكتب عن عدوان يونيو 1967 . وهو نفس ما جرى مع مؤسس مصر الحديثة محمد على قبل حوالي مائتي عام أو أقل قليلا فعندما بنى الدولة القوية وأسس لجيش وطني وتحرك به إلى خارج حدود المحروسة ووصل به إلى مشارف الأستانة عاصمة الدولة العثمانية تدافعت الدول الكبرى في ذلك الوقت فأجبرته على التراجع إلى الداخل ثم الانحسار في النفوذ الإقليمي بل وفي تقليص عدد الجيش فتهاوت المحروسة وغدت ولاية تابعة للأستانة مع استقلال نسبى ثم وقعت في براثن الاحتلال البريطاني الذي لم يغادر البلاد إلا بعد أن انبثقت ثورة يوليو1952 بقيادة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر
والسؤال هنا: هل المحروسة في حاجة إلى جمال عبد الناصر الآن؟
بالطبع اختلفت المعطيات والظروف والمناخات الداخلية والإقليمية والدولية ومن ثم ليس من المنطقي إعادة إنتاج عبد الناصر لكن من دون شك هي في حاجة لاستلهام مشروعه الوطني والقومي للنهوض بعيدا عن الشخصنة والذي يقوم على استقلالية القرار الوطني وتعظيم الإرادة والعزة الوطنية وعدم القبول أو الخضوع للهيمنة الأجنبية على مقدرات البلاد وتطبيق العدالة الاجتماعية والتي ظلت على مدى سنوات عبد الناصر هدفا وسلوكا وفعلا وانحيازا واضحا للقيادة التي مافتئت تصدح باسم المواطن البسيط وتصدر القرارات لصالحه وليس لصالح فئة أو حفنة رجال أعمال فضلا عن رفض التزاوج بين السلطة السياسية والمال مع إضافة إلى الخيار الديمقراطي الذي بات منذ التسعينيات واحدا من أهم ملامح المشروع الحضاري العربي بعد المراجعات التي أجراها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وبات المنتمون إلى ثورة يوليو- ومنهم كاتب هذه السطور- يولونه اهتماما خاصا في ظل ما وجه لتجربة عبد الناصر من انتقادات تتعلق بغياب هذا الخيار وإن كان قد ركز على ما أسماه بالديمقراطية الاجتماعية بعد أن فشلت الديمقراطية السياسية فشلا ذريعا في العصر الملكي
السطر الأخير:
عودي من غيابك
أمطري الروح سكنا
أحيطيني بورودك
دثريني بعينيك وطنا
لاتسافري
فالسفر وجع ودموع
ورحيل يزرع شجنا