يتقاعد الأردنيون في سن مبكرة للغاية، وقد تحمل لقب متقاعد وأنت بالكاد أتممت العقد الرابع من عمرك المديد… وبفارق قد يصل إلى ربع قرن عن سن التقاعد في دول متقدمة… وأطرف تفسير سمعته قبل يومين لكلمة متقاعد في قاموسنا الشعبي هو «مت قاعد»، في تصوير لحالة «الموات» و»القعود» التي يعيشها جيش من المتقاعدين في الدولة من مدنيين وعسكريين… هذا الوضع لا يجوز استمراره ولا التشجيع عليه، بل ويتعين على الدولة بمختلف سلطاتها، أن تبذل جهوداً متضافرة لرفع سن التقاعد، والتخلص شيئاً فشيئاً من ظاهرة «التقاعد المبكر»، وتفادي منح أية امتيازات أو مزايا تشجع على التفكير فيه أو اللجوء إليه.
نحن نعرف أن طموح كثير من العاملين في «دولة القطاع العام»، أن يخرجوا مبكراً إلى التقاعد، حيث تبدأ مبكراً رحلة البحث عن «معلولية» تساعد في تجسير أية فجوات بين راتب الموظف العامل والموظف المتقاعد… ومع تنامي المطالبات النيابية «الشعوبية» بربط راتب التقاعد المبكر بمعدلات التضخم، وفي حال الرضوخ لهذه المطالبات، تكون الدولة قد شجعت هذه الظاهرة بدل أن تحاربها.
يقضي المتقاعد في «دولة القطاع العام» ضعف الوقت الذي قضاه في الخدمة العامة، وإن قدّر له الله عمراً مديداً، ربما يزيد سنوات تقاعده إلى ضعفي سنوات خدمته… هذه حالة شاذة جداً، تخطتها البشرية منذ سنوات وعقود، والعالم يتجه في كليته إلى رفع سن التقاعد للنساء والرجال، باستثنائنا نحن في الأردن.
تأملوا كلفة الموظف في سنوات تقاعده المديدة على الخزينة العامة للدولة… تأملوا حجم الالتزامات المتراكمة على الخزينة ومؤسسة الضمان الاجتماعي… ثم يحدثونك عن الحاجة لإنقاذ الضمان وضبط الإنفاق وتقليص العجز وخفض المديونية… هذا الطريق لا ينسجم مع ذلك، ونحن نهدر بيد، ما يمكن أن نكون قد جمعناه باليد الأخرى.
ليست لدي معلومات وأرقام عمّا يفعله المتقاعدون بعد خروجهم المبكر جداً من الخدمة… لكن مشاهداتي الشخصية تقول إن بعضهم يبحث عن عمل جديد، وهذا جيد، شريطة أن يتم بطرق شرعية، وليس من خلال «اللف والدوران»، فيخرج من الوظيفة العامة من الباب ليعود إليها من النافذة، ساطياً على حق غيره في فرصة عمل جيدة… بعضهم الآخر يبحث عن وظيفة أخرى، وثمة نسبة من سائقي التاكسي والباصات، تقاعدوا مبكراً… وثمة فئة تبحث عن زوجة ثانية تستكمل مشوار العمر في مرحلته الجديدة، طالما أن راتب التقاعد قد يكفي الأولى وأبناءها القدامى فيما «راتب التكسي» قد يخصص للثانية وأبنائها الجدد.
ما الذي نخسره بخروج قوة العمل هذه من حقل الوظيفة، بعد سنوات طوال من الاستثمار في تعليمها وتأهيلها وتدريبها، وبعد كل ما اختزنته من خبرات ومعارف… التقاعد المبكر، يقصف أعمار هذه الخبرات، ويحيلها إلى خزان الطاقات المهدورة في الدولة والمجتمع، وما أكثرها.
نفهم أن هناك مهناً خطرة، ربما تملي على أصحابها اللجوء إلى التقاعد المبكر… مثل هذا الأمر مفهوم، وهذه المهن يجب أن ينص عليها بقانون، وأن تحدد لعملية التقاعد المبكر شروط شفافة وقابلة للقياس والتطبيق، وأن يخضع لها الجميع من دون تمييز أو محاباة، أي من دون واسطة.
ونفهم أن يرتبط الراتب التقاعدي، بل وكل الرواتب، بمعدلات التضخم السنوية، وإلا سيتآكل هذا الراتب، ومعه مستوى معيشة صاحبه وأسرته بعد عدة سنوات… لكن ذلك لا ينبغي أن يكون عامل تشجيع على زيادة الطلب على التقاعد المبكر… لا ينبغي خلق حوافز لهؤلاء أو تشجيعهم على الركون إلى البطالة.
قانون الضمان الاجتماعي، يجب أن يدرس من منظور مصلحة المشمولين به، وبحسابات الاقتصاد الوطني بعيدة المدى، ولا مجال لـ «شعبوية» مؤقتة أو رخيصة عند البحث في أمرً جلل كهذا… يجب أن يدرس الأمر بمعزل عن صناديق الاقتراع وحساب الحملات الانتخابية، فما قيمة مكسب مؤقت قد ننتزعه اليوم لفئة من المستفيدين، تكون نتيجته خراب الضمان وفراغ صناديقها والمقامرة بمصالح كل المنتفعين، وربما بعد زمن ليس بالبعيد.