لم يعد خافياً على أحد أنه تجب هندسة الشرق الأوسط برمته سياسياً واقتصادياً وعسكرياً كي تنام فيه إسرائيل قريرة العين، بلا منافس اقتصادي أو ديمقراطي أو عسكري، وهو الأهم. فقد ظن البعض، وكل الظن إثم في هذه الحالة، أن الربيع العربي سيحوّل البلدان التي وقع فيها الربيع إلى ديمقراطيات بسرعة البرق، بحيث لا تعود إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. لكن هيهات، فقد كان الكثيرون حالمين ومتفائلين أكثر من اللازم بكثير. ففي سوريا مثلاً تكالب على ثورتها القاصي والداني كي لا يجهضها فقط، بل كي يجعل الشعب السوري يندم على الساعة التي ثار فيها على نظام الأسد الذي أمّن الحماية لإسرائيل على مدى عشرات السنين. فلم يعد حلم السوريين، بأي حال من الأحوال، على الأقل في اللحظة المأساوية الراهنة، بناء نظام ديمقراطي ينافس إسرائيل، بقدر ما يريد أبسط أساسيات الحياة التي دمرها النظام طبعا بمباركة إسرائيل وأمريكا والغرب عموماً.
طبعاً قلناها مرات ومرات إن إسرائيل لا يمكن أن تسمح بنشوء ديمقراطيات حقيقية على حدودها، ومن الأفضل لها ألف مرة أن تكون دول الطوق محكومة بديكتاتوريات عسكرية حصراً تكتم أنفاس الشعوب، وتدفع من يعارضها خلف الشمس بأبشع الطرق الوحشية والفاشية. طبعاً، من حق إسرائيل أن تدعم بقاء الديكتاتوريات في المنطقة، خاصة أنها عاشت أهدأ وأهنأ سنواتها في ظل الحكم الديكتاتوري الاستبدادي العربي المحيط بها.
وعندما بدأت إسرائيل تدرك أن الطواغيت والجنرالات الذين حموها على مدى عقود لم يعودوا قادرين على حماية أنظمتهم من غضب الشعوب، فما بالك أن يحموها، راحت تنتقل إلى الخطة باء في إنهاك المنطقة المحيطة بها، إن لم نقل إخصاءها عسكرياً، خاصة بعد أن خشيت من وقوع الترسانات العسكرية، خاصة الأسلحة غير التقليدية كالكيماوية والبيولوجية في أيدي جماعات لا تستطيع السيطرة عليها أو الوثوق بها كما كانت تثق بالطواغيت الساقطين والمتساقطين. لاحظوا كيف عاد أوباما واعترف بشرعية السد فجأة كي يوقع له على قرار التخلي عن السلاح الكيماوي قبل انتقال السلطة لاحقاً إلى جهات لا يمكن الوثوق بها.
طبعاً سياسة إسرائيل الرامية إلى إخصاء الشرق الأوسط عسكرياً ليست وليدة الساعة، أو على ضوء الضغط على سوريا لتسليم سلاحها الكيماوي. لا أبداً، فقد عملت إسرائيل مع أمريكا قبل سنوات طوال على تجريد نظام القذافي من كامل ترسانته غير التقليدية بإغرائه بالعودة إلى الحظيرة الدولية ورفع اسم بلاده عن قائمة الإرهاب الأمريكية. وقد نجحوا في الضحك على معمر القذافي، وجعلوه يسلم حتى سكاكين المطابخ، بحيث أصبح مخصياً تماماً من الناحية العسكرية.
وهل ننسى بالأصل أن أحد أهم أهداف الغزو الأمريكي للعراق كان ضرب وتفكيك واحد من أهم وأقوى الجيوش في المنطقة. وكي لا يظن البعض أننا نتحدث جزافاً، فقد اتصل الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش عندما وصلت قواته إلى غرب العراق، اتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون آنذاك، وقال له مازحاً: “اطمئن يا صديقي، فقد أصبحت قواتنا غرب العراق”. وهذا يعني عملياً أن الخطر العسكري العراقي على إسرائيل قد انتهى تماماً. وقد جاءت لعبة بريمر الشهيرة المتمثلة بحل الجيش العراقي استكمالاً لمكالمة بوش الشهيرة مع شارون. فقد نجح بريمر لاحقاً في تفتيت الجيش العراقي وملاحقة ضباطه وجنوده واغتيال علمائه العسكريين والنوويين. ولا ننسى طبعاً كيف ضغطت أمريكا على مدى سنوات قبل الغزو في دفع النظام العراقي السابق إلى التخلص من ترسانته بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل المزعومة. وقد أصبح العراق بعد الغزو من الناحية العسكرية قزماً، بعد أن كان يشكل تهديداً كبيراً لإسرائيل. ولا ننسى أن العراق بنى الطريق الذي يوصل العراق بسوريا في بعض أجزائه على شكل مدرجات مطارات كي يكون بمقدور الطائرات العراقية أن تستخدمها للإقلاع باتجاه إسرائيل في حال الحرب. ولو نظرنا إلى حالة الجيش العراقي الآن لوجدناها في أرذل حالاتها، فلا يستطيع نوري المالكي حتى مواجهة قوات البيشمركة الكردية التي لديها من السلاح والعتاد أكثر من الجيش العراقي، بينما استطاع الجيش العراقي في السابق أن يحارب إيران لثماني سنوات متواصلة ببسالة ومفعول كبير دفع الخميني إلى “تجرع السم” والقبول بالهدنة مع العراق بعد أن تكبدت قواته خسائر هائلة.
وها نحن اليوم نواجه السيناريو العراقي في سوريا، ومع اختلاف الظروف والمسببات. ليس هناك أدنى شك بأن النظام السوري حقق لإسرائيل وأمريكا الكثير الكثير على صعيد تدمير الجيش السوري وإنهاكه عندما زجه بعد شهر واحد فقط على الثورة الشعبية في حرب ضروس ضد الشعب. ولا شك أنه حقق لأمريكا وإسرائيل غاياتهما دون أن تخسرا رصاصة واحدة. لاحظوا أن أمريكا دفعت المليارات لتدمير العراق عسكرياً، بينما حقق النظام السوري لها ما تريد من تدمير وتخريب في بنية الجيش السوري مجاناً. ولم يكتف النظام بإنهاك الجيش الذي أصبح منهكاً أمام إسرائيل، بل راح يستخدم السلاح السوري الإستراتيجي المتمثل بالسلاح الكيماوي، مما جعل إسرائيل وأمريكا تفركان أيديهما فرحاً، لأنه أعطاهما فرصة تاريخية كي يجيشا العالم ضده ليتخلى عن ترسانته الكيماوية أولاً والبيولوجية لاحقاً.
لقد لاحظنا أن أمريكا وإسرائيل لم تحركا ساكناً ضد النظام على مدى أكثر من سنتين طالما أنه كان يقوم بالواجب بتدمير الجيش وإنهاكه وتخريب سوريا، لكن ما إن لجأ إلى الكيماوي حتى تحركت “الحمية” الأمريكية والإسرائيلية، فراحت واشنطن وتل أبيب تجيشان العالم ضد النظام بحجة تجاوزه للخط الأحمر واستخدام السلاح المحرم دولياً. وفي واقع الأمر أن تلك الحمية لم تكن أبداً عقاباً له على قتل ألوف الأطفال بالكيماوي، بل كي تجبراه على التخلص من سلاحه الكيماوي، الذي يهدد إسرائيل. وكان لهما ما أرادتا بيسر وسهولة. فما إن حشدت أمريكا حاملاتها بالقرب من سوريا، حتى ارتعدت أوصال النظام. وما إن طلب منه وزير الخارجية الأمريكي أن يسلم سلاحه الكيماوي خلال أسبوع، حتى استجاب النظام للطلب الأمريكي خلال سبع دقائق، لم ينتظر المهلة التي أعطاها جون كيري. فتفتقت قريحة روسيا عن خطة لوضع السلاح الكيماوي السوري تحت مراقبة دولية ومن ثم تدميره نهائياً وإجبار سوريا على توقيع معاهدة حظر السلاح الكيماوي.
طبعاً النظام السوري يقول إن جيشه مستهدف أمريكياً وإسرائيلياً، وأن هناك مؤامرة تمثلت بالضغط على النظام كي يستخدم جيشه لمحاربة جماعات سلطتها عليه أمريكا، وصورتها على أنها ثورة شعبية. وحتى لو كان النظام محقاً في زعمه، فالغبي ليس من دفع النظام إلى إنزال جيشه إلى الشوارع بعد أسابيع قليلة على الحراك الشعبي، بل الذي أنزل الجيش وورطه في حرب لم يشهد لها مثيلاً منذ تأسيسه، حيث اضطر إلى خوض معارك من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، بينما كانت إسرائيل تتفرج بفرح عارم على انهيار أقوى الجيوش العربية التي تهددها في المنطقة.
ولا ندري كيف سيكون مستقبل الجيش المصري بعد أن اقتحم الساحة السياسية، وبعد أن أصبحت سيناء مصدر قلق كبير له. فهل يستنزفونه أيضاً؟
باختصار شديد: المطلوب شرق أوسط جديد تكون فيه إسرائيل الفحل الوحيد فيه عسكرياً، والباقي….