لو كنت مكان مؤلفي القواميس والمعاجم اللغوية لرفعت دعوى عاجلة ضد النظام السوري فوراً، لأنه أساء إساءة بالغة لمعنى كلمة “انتصار”، لا بل قلبها رأساً على عقب. وهذا النظام ليس أول نظام عربي يقوم بتحريف معنى “الانتصار” كي يدّعي الفوز على خصومه، فقد سبقه إلى ذلك العديد من الأنظمة “القومجية” ومشتقاتها، فلا ننسى أن النظام الناصري وصف من قبل هزيمته النكراء عام 1967 على أيدي إسرائيل بأنها كانت مجرد “نكسة”، مع العلم أن إسرائيل وقتها سحقت العديد من الجيوش العربية خلال ستة أيام، لا بل احتلت أجزاء واسعة من مصر وسوريا والأردن وفلسطين. مع ذلك خرج علينا القومجيون رافعين علامات النصر، بالرغم من أن أنوفهم قد تم تمريغها بالتراب شر تمريغ. ولعلنا نتذكر ما قاله وزير الخارجية السوري آنذاك عبد الحليم خدام بعد سقوط الجولان في أيدي العدو الإسرائيلي، فبدل الاعتراف بالهزيمة البشعة، رفع خدام علامة النصر قائلاً: “ليس المهم أن نخسر جزءاً كبيراً من أرضنا لإسرائيل، المهم أن النظام الحاكم صمد صموداً “عظيماً” أمام الأعداء”. يا للصمود! تصوروا كيف يفكر هؤلاء!
صحيح أن مصر وسوريا أبليتا بلاء أحسن في حرب تشرين عام 1973، إلا أن النتيجة لم تكن أفضل بكثير من هزيمة 1967، فقد وصلت جحافل الغزاة الصهاينة إلى محيط العاصمة دمشق، مما جعل شاعراً كبيراً كنزار قباني يتحدث عن “خازوق دُق بأسفلنا من جبل الشيخ إلى سعسع”. أما تحرير القنيطرة المزعوم فقد كان مجرد مسرحية تم إخراجها بالتنسيق مع إسرائيل للأسف. وقد دفعت سوريا مقابل ذلك المشهد المسرحي الهزيل المتمثل برفع العلم السوري فوق القنيطرة ثمناً كبيراً جداً تمثل في اتفاقية سلام غير معلنة بين دمشق وتل أبيب ما زالت مستمرة منذ 1973. وقد ذكر أحد الباحثين الأمريكيين بالحرف الواحد أن “سوريا هي أول بلد عربي يوقع معاهدة سلام مع إسرائيل قبل مصر والأردن والفلسطينيين، لكنها كانت معاهدة سلام غير معلنة، إلا أنها كانت معاهدة سلام كاملة الأوصاف، بدليل أن سوريا لم تسمح منذ ذلك الحين بإطلاق رصاصة واحدة على ما تسميه بـ”العدو الصهيوني”. وكان الاسرائيليون يتندرون دائماً بأن منطقة الجولان هي أهدأ وأجمل منتجع سياحي، لأنه يحظى بحماية كبرى من طرف الإسرائيليين والسوريين على حد سواء.” وقد دارت الأيام لتؤكد كلام الباحث الأمريكي، فقد هدد رامي مخلوف ابن خال الرئيس السوري في بداية الثورة السورية في مقابلة مع صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية بأن “استقرار إسرائيل من استقرار سوريا”. وقد كان يهدد الإسرائيليين بأنه إذا لم يلتزموا بمعاهدة السلام “غير المعلنة” بين دمشق وتل أبيب، فإن سوريا ستفتح الحدود للمقاتلين الفلسطينيين كي يهاجموا إسرائيل. وقد لاحظنا كيف تم فتح الحدود من قبل النظام السوري أمام مجموعة من الشباب الفلسطيني الذي عاد محملاً بالتوابيت بعد أن قتلته القوات الإسرائيلية.
ليس هناك أمة في العالم تصور هزائمها وتواطئها مع الأعداء كانتصارات، كالعرب، وخاصة القومجيين منهم. ولعلنا نتذكر أيضاً كيف رفع حسن نصر الله علامة النصر بعد أن كادت إسرائيل أن تحول لبنان إلى “أكياس من الرمل”، كما توعد أحد الحاخامات. فبالرغم من أن حزب الله لم يتمكن من تحقيق أي نصر على إسرائيل سوى تكسير بعض النوافذ في إسرائيل، وقتل عدد بسيط من الجنود، إلا أنه خرج على العالم يتفاخر بـ”نصره الإلهي”. وقد تهكم أحدهم ذات مرة قائلاً:” إذا كان النصر الإلهي” قد كلفنا كل هذه الخسائر في الأرواح والماديات، فكيف كانت ستكون نتيجة “النصر الدنيوي”. ربما كنا قد أصبحنا في خبر كان. وتهكم آخر على انتصارات حزب الله قائلاً: ” إذا انتصرنا مرة أخرى على إسرائيل، فهذا يعني زوال لبنان عن بكرة أبيه. أرجوكم كفانا انتصارات”.
وكعادته التاريخية، هذا هو النظام السوري بعد ثلاثين شهراً من الدمار الهائل الذي ألحقه بسوريا، يعلن بين الفينة والأخرى، أنه انتصر على “المؤامرة الكونية”، وصمد صموداً اسطورياً، مقارنة بنظام زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر. لا أدري لماذا تناسى أن مبارك وبن علي لم يطلقا الرصاص على الشعبين التونسي والمصري، بينما لم يترك النظام السوري سلاحاً تقليدياً أو محرماً دولياً إلا واستخدمه ضد الثوار السوريين والشعب عندما خرج إلى الشوارع للتظاهر السلمي. أي نظام في العالم يستخدم ربع ترسانته العسكرية ضد شعب أعزل يمكن أن يصمد عشرات السنين، وليس ثلاثين شهراً كما يدعي أنصار النظام.
ما أبشع تلك الأبواق وهي تتشدق بأن “النظام صمد، وانتصر”. وهل الصمود على أشلاء وطن نزح أكثر من نصف سكانه، وتشرد الملايين من أهله في الدول المجاورة انتصار بربكم؟ هل ترون عشرات الألوف من السوريين المرميين في الحر والصقيع في مخيمات الأردن وتركيا انتصاراً؟ هل ترون انهيار الاقتصاد السوري وعودة البلاد خمسين عاماً إلى الوراء انتصاراً؟ كيف تسمون إزالة مدن وقرى عن الخارطة كحمص ودير الزور وريف دمشق ودرعا انتصاراً؟ ألا تشكل محافظة حمص ثلث مساحة القطر السوري؟ أين اصبحت تلك المحافظة العريقة بعد أن حولتها دبابات الأسد وطائراته وبراميله وسلاحه الكيماوي إلى أنقاض تذّكر بأنقاض الحرب العالمية الثانية؟ هل تدمير وطن وذبح شعبه يسمى انتصاراً؟ هل ينتصر الإنسان على وطنه، أم على أعدائه؟ لماذا تطبلون وتزمرون لاسترجاع قرية مثل قرية “القصير” الحمصية، كما لو أنكم حررتم فلسطين؟ أليست “القصير” قرية سورية أولاً وأخيراً، فكيف تنتصرون على القرى والمدن السورية؟ ألا يشعر النظام بالخجل عندما يرى ثلاثة أرباع سوريا وقد خرجت من تحت سيطرته؟ هل هذا هو الانتصار الذي يتشدق به في وسائل إعلامه؟
كم هم مضحكون أولئك الذي يعزون “انتصارهم المزعوم” في سوريا إلى التفاف الشعب حول قيادته. هل فعلاً سبب “صمودكم” التفاف الشعب حولكم، أم تدميركم للبلد والشعب معاً هو من جعلكم “تصمدون”، وأي صمود؟
ها هي سوريا الآن تواجه العدوان الخارجي بعد أن أجهز عليها العدوان الداخلي. مع ذلك، فـ”الصامدون” في بلدنا يريدون أن يعطوا للخارج فرصة للإجهاز على ما تبقى من سوريا. قد تتعرض سوريا، لا سمح الله، لضربات مرعبة من الخارج رداً على استخدام النظام للسلاح الكيماوي، وقد يتفكك الجيش وما تبقى من الدولة السورية، فهل ستعتبرون ذلك أيضاً من “انتصاراتكم وإنجازاتكم التاريخية”؟