دعيت الى ندوة شبابية في منتجع وادي الشتاء، تجمع أطيافاً كثيرة وعديدة ومتباينة من أغلب الأقطار العربية، وجدوا أنفسهم أمام واقع صعب ومعقد، يعج بالاختلافات العميقة والتباينات الدينية والمذهبية والفكرية والسياسيّة والعرقية، وحوارات الدم والرصاص، ولغة الإقصاء والإبعاد، وبناء الجدران العالية التي تحجب التواصل، وتمنع الرؤية السلمية للمستقبل.
كانت الدعوة تهدف الى محاولة البحث عن سبل الحوار والتواصل، من أجل التوصل الى لغة مشتركة، قادرة على تلمس المشاكل والعوائق الشائكة، بمنهجية علمية موضوعية، تتجاوز الخندقة والتمترس خلف المواقف المسبقة، وتتجاوز الاصطفاف المحسوم الذي يزيد المشكلة تعقيداً، ويعيد تدوير الأزمة.
الأجيال الجديدة مثقلة بتركة صعبة، ممزوجة بثقافة متأصلة، وأعراف مستقرة، تحتاج في أغلبها الى وقفة مراجعة نقدية جريئة، تستطيع من خلالها استخلاص العبر والدروس المفيدة في بناء المستقبل، وليس من قبيل جلد الذات، واجترار الألم.
في البدء ينبغي تلمس الحقائق والوقوف عليها، والتوافق على وصفها وتشخيصها، من أجل التوافق على معالم الحل عبر قواعد محايدة؛ تتصف بالعلمية والموضوعية، وتحظى بالاعتراف والإقرار الجمعي من مختلف الإتجاهات السياسية والفكرية، ومن مختلف المكونات المجتمعية.
أول هذه الحقائق تتعلق بأنماط الحكم العربية التي توارثت إدارة هذه البقعة من العالم، تدور في جوهرها حول مقولة الحزب الأوحد، والحاكم الأوحد والعائلة الواحدة،ويمتلكون الارض وما تحتها وما فوقها ،وتمتلك الانسان وتحتكر الحقيقة! والتي لسان حالها: «لا أريكم الاّ ما أرى» وتنظر الى الآخرين أنهم مناوئون ودعاة فوضى وتخريب،و يتربصون الدوائر بكرسي الحكم.
والحقيقة الثانية تتعلق بالطرف الذي يطلق عليه معارضة تجاوزا؛ إذ أن المعارضة في المعنى السياسي المعروف هم جزء من منظومة الحكم، وجزء لا يتجزأ من الدولة، أما في عالمنا العربي فينظر إلى المعارضة على أنهم جسم غريب، لا يستحق إلّا الازدراء والمقاومة، وقد كرست الأحداث المصرية الأخيرة هذه الحقيقة، وتم العودة إلى ما قبل خمسين عاماً من إطلاق الاتهامات على كل من وقف ضد الانقلاب ووصفهم بالإجرام والإرهاب والخروج على السلطة، وتقويض نظام الحكم وإثارة الفوضى وتخريب صفو الأمن.
الحقيقة الثالثة تتعلق بالنزعة التفريقية التي ضربت مجتمعاتنا بقوة، بعضها قائم على تعصب ديني، وبعضها قائم على تعصب مذهبي أو طائفي أو عرقي أو مناطقي، والمشكلة الجوهرية المنبثقة عن ذلك، أن الأحزاب السياسية تنطلق من أرضية طائفية أو مذهبية أو عرقية أو جهوية، مما يجعلها منخرطة في تعميق الأزمة، وليست قادرة على إعادة لملمة صفوف الأمة، ومحاربة النزعات التفريقية والعصبيات الجاهليةالمنفّرة.
وبناءً على ما سبق يجب الشروع في بناء ثقافة جديدة، تقوم على محاربة فكرة الحزب الواحد الأوحد، والحاكم الواحد الأوحد، والانتقال إلى ثقافة حكم جديدة مبنية على أساس أن السلطة للشعب، ولا شرعية لأحد إلّا من خلال الشعب، ولا طريق لمعرفة الإرادة الشعبية إلّا من خلال آلية معيارية منضبطة؛ لا تحتمل اختلافاً أو تأويلاً ، ولا سبيل لذلك إلّا من خلال صناديق الاقتراع النزيهة، وان محاولة الهروب من استحقاق الصناديق، ورفع شعار ليست الديمقراطية صناديق اقتراع! إنما يشكل بوابة من بوابات الشرور، والرضوخ إلى الجيوش والعساكر لحسم الأمر، وهذا غاية في التخلف والهزيمة!.
الأمر الآخر يتعلق بإعادة تعريف المعارضة السياسية بأنها شريك في الحكم والسلطة، وجزء لا يتجزأ من الدولة، وأنها ليست رجساً من عمل الشيطان وليست جسماً غريباً يستحق الاجتثاث والمحاربة، وهذا يحتاج إلى تأهيل النظام والمعارضة والشعب على هذا المفهوم.
أما الأمر الآخر، فيجب أن نتفق على ارتباط الأحزاب بالبرامج وليس بالانتماء الطائفي أو المذهبي، دوت استنكار على أي حزب في أن يشتق برامجه من أي فلسفة أو أن يستند إلى مرجعية قيمية ، ولذلك يجب أن نخلق التنافس العادل بين الأحزاب على البرامج والحلول العملية، وليس التنافس على الانتماءات العقدية والأيدولوجية والعرقية التي لا تثمر إلا التعصب والخندقة، ولذلك ينبغي على الأحزاب المتشكلة أن تطرح الأطر الواسعة التي تتسع لكل المواطنين بمختلف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم وجهاتهم، فهذا لا يتعارض مع البرنامج ولا مع الحلول السياسية العملية . أتمنى للشباب والأجيال الجديدة أن تكون قادرة على البدء بحوار مسؤول يتناول مختلف القضايا الحساسة، بعيداً عن تقليد الكبار والاصطفاف الأعمى خلفهم.