ما زال الكثير من دول العالم يتلمس طريقه في الفضاء الإلكتروني الهائل الذي بات جزءاً لا يتجزأ من حياة الناس اليومية ويتحكم إلى حد كبير بطرق الاتصال والمعرفة ووسائلهما، ولا تزال دول عدة بحاجة إلى صوغ الوسائل القانونية للتعامل مع حالات خرق القوانين والجريمة والاحتيال وأيضاً خرق الخصوصية والتجسس في العالم الافتراضي الذي يتسع كل يوم.
لكن هذا شيء وقيام دول بخرق خصوصية مواطنيها ومواطني دول أخرى شيء مختلف. وأمس تكشفت جوانب جديدة في فضيحة «الأخ الأكبر» الأميركي الذي تبين أنه يملك القدرة على اختراق أنظمة التشفير الإلكترونية على اختلاف أنواعها، ما يعني أن أي مواطن في أي بلد عرضة للانكشاف التام أمامه، سواء تعلق الأمر بمراسلاته الشخصية أو بتعاملاته المصرفية أو وضعه الصحي أو حتى بقراءاته، طالما أنه يستخدم الحاسوب أو الهاتف النقال.
ولا يتعلق الأمر بالمواطنين العاديين فقط، بل حتى بالرؤساء والقادة والشخصيات السياسية. ففي قمة مجموعة العشرين التي انعقدت في موسكو خلال اليومين الماضيين، اضطرت رئيسة البرازيل ديلما روسيف إلى تخصيص قسم من اجتماعها مع الرئيس الأميركي باراك أوباما لمناقشة قضية تجسس الولايات المتحدة على اتصالاتها وفق ما كشفت وثائق سربها خبير المعلوماتية الفار إدوارد سنودن. وشمل هذا التنصت أيضاً الرئيس المكسيكي أنريكي بينا نيتو ومسؤولين دوليين آخرين في أوروبا ومختلف أنحاء العالم.
لقد صارت أجهزة الاتصال الإلكترونية التي تتطور كل يوم وتضاف إليها ميزات وقدرات تفوق الخيال أحياناً وتتنافس على إغراء المشترين واستثارة فضولهم، بمثابة «جاسوس» تحمله في جيبك أو حقيبتك يكشف أسرارك ومكانك وبمن اتصلت وكم أمضيت من الوقت وكل التفاصيل الصغيرة الأخرى. وهذا يفترض أن يكون معلوماً لدى كل من يشتري أحد هذه الأجهزة ويشغلها، لكن هناك ضمانات تقدمها شركات الاتصالات للمشتركين لديها بأن كل المعلومات المتعلقة بهم تبقى طي الكتمان ولا يمكن الكشف عنها إلا بموجب طلب من القضاء عندما يتعلق الأمر بجريمة ما بدءاً من المضايقات الشخصية ووصولاً إلى التخطيط لجرائم إرهابية.
لكن تبين أن ضمانات شركات الاتصالات هذه واهية، إذ تستطيع أجهزة الاستخبارات الأميركية والبريطانية بواسطة برامج خاصة متطورة، أن تدخل إلى حواسيبها وتفك شيفراتها وتطّلع على المعلومات الخاصة بأي مشترك، هذا إذا افترضنا أن بعض هذه الشركات يمتنع عن التعاون مع وكالات الاستخبارات. كما أنها تستطيع تتبع نشاط أي زبون لديها بمجرد أن يدخل موقعاً ما تعتبره «مشبوهاً» أو أن يستخدم كلمة ما تطلق الضوء الأحمر في غرف المراقبة.
حتى إن وكالة الأمن القومي الأميركية تنفق 250 مليون دولار في السنة على برنامج يطبق بالتعاون مع شركات التكنولوجيا من أجل «التأثير بشكل خفي» على تصميم منتجاتها لتصبح قابلة للخرق والتجاوب مع برامج التجسس.
وهكذا إذا قررت بسبب رغبتك في المعرفة أو لحشريتك فقط أن تقرأ مقالاً عن تنظيم «القاعدة» تحولت إلى مشبوه يخضع للمراقبة لمجرد أنك دخلت موقعاً ما.
وكنا نظن أن هذه الأمور تحصل في الأفلام الهوليودية فقط إلى أن صارت حقيقة وواقعاً يمس حياتنا اليومية بتفاصيلها، وربما نكتشف المزيد منها مع الوقت إذا ما استمر سنودن في تسريب وثائقه.
فهل يستطيع العالم أن يتوصل يوماً إلى معاهدة تمنع مثل هذا التعدي على الحريات باسم «محاربة الجريمة» أو «المساعدة في تطبيق القانون»؟ وإذا حصل ذلك من يستطيع أن يضمن التزام أجهزة الاستخبارات به طالما أن عملها سري ولا تخضع سوى لرقابة المسؤولين عنها؟