بعيداً عن القرارات الرغائبية والعواطف الذاتية، فلو أن أحداً وجّه إلي السؤال أعلاه، وهو سؤال اللحظة السياسية الراهنة، لقلت إن الساعة الرملية التي كانت تتذرذر ببطء شديد، وأحياناً لا تعمل على الإطلاق، قد استنفدت الآن جل ما تبقى فيها من حبيبات، وذلك بعد الارتجاج العنيف الذي تعرضت له لدى استخدام السلاح الكيماوي في الغوطتين، وامتلاء شاشات التلفزيون بصور أطفال ماتوا بدون أن تنزف من أجسادهم قطرة دم واحدة.إذ يبدو أن حسابات من أزهق أرواح أكثر من مئة ألف سوري كانت خاطئة هذه المرة؛ وأن تقدير الموقف لديه انبنى على افتراضات مستمدة من خبرة حرب الثلاثين شهراً الماضية. لكأن لسان حال من عزموا على استعمال السلاح الكيماوي كان يقول: إن العالم الذي غض بصره عن القصف بالطائرات والراجمات والصواريخ البالستية، قد أدمن مشاهد القتل المتنقلة، وإن الرأي العام الدولي قد تلبدت مشاعره وملّ من المتابعة.ولعل السؤال الذي لا يقل أهمية هو: هل كان اللجوء إلى هذا السلاح المحرم دولياً تعبيراً عن حالة يأس إزاء تطهير ضواحي دمشق من “العصابات المسلحة” التي تمتلك أفضل الوحدات وأكثرها تسليحاً وأشدها تماسكاً بين سائر وحدات الثورة السورية؟ أياً كانت الإجابة، فإن حسابات الأسد بدت خالية تماما من التحسبات لأي ردة فعل أو مساءلة، طالما أن الأزمة المتفاقمة قد برهنت على قصر باع العرب، وتهافت إرادات أصدقاء الشعب السوري، وخلو وفاض الغرب اللامبالي من الشهية للمجابهة، وإمحاء خط باراك أوباما الأحمر.غير أنه غاب عن ذهن النظام الذي قتل من شعبه أكثر مما تفعله أي قوة غزو خارجي متوحشة، أن تغيير قواعد اللعبة على هذا النحو الجنوني هو أمر لا يخاطب الثورة، ولا يخص ذوي الضحايا، بالقدر الذي يخاطب الدول الغربية التي لم تهب أساساً لنصرة أطفال زملكا وسقبا وعين ترما والمعظمية، وإنما لمنع هذه الفعلة من أن تتكرر إذا ما تم التغاضي عنها، خصوصاً أن هناك من هدد مراراً بضرب مكة واسطنبول، وأن هنا من أبدى خشيته رسمياً من تعرض مخيم الزعتري لضربة كيماوية.وهكذا، بدا استخدام الكيماوي أكثر من مغامرة غير محسوبة بدقة، تتجاوز حدود التشبيح المعهودة، وتمتلك كل الديناميات الداخلية لتحويلها إلى طلقة كيماوية مرتدة. فإخراج مثل هذا الجني من القمقم ينطوي على تهور لا تنقصه الرعونة، ويدفع بالموقف إلى حافة الهاوية، ويطرح على جميع المخاطبين بهذه الفعلة الخرقاء، تحدياً لا يمكن الهروب من مجابهته، وذلك بعد أن تم وضع عظمة الدولة العظمى على محك الاختبار، وبات استخذاؤها المديد أمراً لا يمكن فهمه إلا على أنه دليل ضعف استراتيجي يمس مكانتها العالمية الفريدة.إزاء ذلك، بدت أميركا محشورة في الزاوية الضيقة، مكرهة على الدفاع عن مصداقيتها وعن صورتها كدولة قائدة، فيما بدا حلفاؤها الأوروبيون أشد حراجة إذا مرت السابقة الكيماوية كأنها فصل اعتيادي في رواية المأساة السورية. بينما وقفت إسرائيل تترقب بقلق لا تخطئه العين، ما إذا كانت أقوال واشنطن مجرد حبر على ورق، وكانت التزاماتها حيال منع إيران من التسلح النووي مجرد ضريبة كلامية. الأمر الذي أفقد الإدارة المترددة كل قدرة إضافية على المراوغة، وحملها حملاً على الإقدام نحو ضفاف مواجهة عسكرية غير قابلة للتأجيل أكثر من أيام معدودة.اليوم، وعلى ضوء ما يجري من تحشيد عسكري أميركي في أعالي البحار، وما يتواصل من اجتماعات رؤساء أركان، وما يُراكم من عوامل قوة في البر والبحر والجو، لم يعد هناك سوى شك ضئيل في أن الضربة الجوية قد اجتازت نقطة اللاعودة، وأن الدخول الأميركي على خط الأزمة السورية بات مسألة وقت ليس إلا. وهو دخول من المرجح ألا يجري بخطوة ناقصة، وألا يتم بنصف قدم؛ الأمر الذي يجعلنا نعتقد بقوة أن ساعة الأسد قد دقت أخيراً، وبشدة.issa.alshuibi@alghad.jo