ذكرتنا التصريحات الرسمية التي تناقلتها وسائل الإعلام المصرية، هذا الأسبوع بحكاية «المسار الديمقراطي». وفهمنا أن الإشارة إلى المسار المذكور كانت بمناسبة انتهاء لجنة الخبراء من النظر في تعديل دستور 2012 المجمد، الأمر الذي يفترض أن تحسمه مناقشات لجنة الخمسين، ليسفر عن إصدار دستور جديد على أساسه تدور العجلة الديمقراطية بما يؤدي في النهاية إلى إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية مع بدايات العام الجديد في الأغلب، وبذلك يستكمل النظام الديمقراطي بنيانه. وهذا أمر مهم لا ريب، أيا كانت ملاحظاتنا عليه، لأن الشكل لا غنى عنه باعتباره يمثل الوعاء الذي من خلاله تتم الممارسة الديمقراطية. لكنني أخشى من الاكتفاء باستيفاء الشكل وتعطيل الوظيفة، لأن لنا خبرات طويلة وذكريات مريرة مع أنظمة عدة حرصت على إقامة الهياكل الديمقراطية ووفرت لها كل مستلزماتها باستثناء شيء واحد هو الممارسة الديمقراطية التي تتمثل في ثلاثة أمور هي: المشاركة والمساءلة وتداول السلطة. فذلك كله يجب أن يسبقه مناخ من الاستقرار والثقة يطمئن المجتمع إلى جدية ما هو مقبل عليه. بكلام آخر فإن التقدم على صعيد المسار الديمقراطي لا يتم فقط بالإجراءات التي تتم أو الهياكل التي تقام على أهميتها، ولكنه يتطلب توفير أجواء إيجابية تقنع الرأي العام بصدق ذلك التوجه وجدواه. وهو ما أزعم أن مصر تفتقده في الوقت الراهن ــ لماذا؟ لأن الشواهد والقرائن التي تطل علينا يوما بعد يوم تدل على أن مجتمعنا لا يعد لإقامة المسار الديمقراطي الذي يتحدث عنه رئيس الوزراء أو المستشار السياسي لرئيس الجمهورية. ومن يرصد تلك الشواهد ويتابعها يجد أن ثمة مسافة واسعة بين ما يصرح به أولئك الرسميون وبين ما يحدث على الأرض. وإذا أحسنا الظن بهم، وهو ما لا أستبعده، فلن يكون بمقدورنا أن نفسر كلامهم إلا بحسبانه تعبيرا عن تيار في السلطة لا يمثل الأغلبية وليس له تأثير على القرار. أو أنهم أناس حالمون يتكلمون عما يتمنونه وليس عما هو حاصل على الأرض، أو أنهم يتحدثون عن بلد آخر غير مصر.
إن حملة تسميم الأجواء وإشاعة الكراهية المهيمنة على الفضاء المصري في الوقت الراهن تقطع الطريق على محاولة التقدم باتجاه المسار الديمقراطي، كما أن لغة الإقصاء والتخوين والتخويف تتناقض مع ذلك الاتجاه ولا تخدمه.
إن إقصاء الرأي الآخر وحجبه من الكتابة في الصحف وحظر ظهوره على شاشات التلفزيون أصبح هو الأصل والقاعدة. الأمر الذي أشاع جوا من الترهيب والتخويف الذي عبر عنه البعض صراحة (عمرو حمزاوي) مثلا، واتهام المعارضين بالخيانة والعمالة أصبح شائعا (الدكتور محمد البرادعي نموذجا) ــ أما الصامتون الذين أبدوا تفهما لمواقف الآخرين ولم يعلنوا انحيازهم الصريح والعلني للوضع المستجد، فهم من الطابور الخامس والخلايا النائمة. أما الإخوان الذين كانوا في السلطة قبل 30 يونيو فقد تحولوا فجأة إلى جماعة محظورة وتنظيم إرهابي وإخوان مجرمين. يستحسن إحراقهم «بالجاز» وهناك فتوى جاهزة بجواز قتلهم… إلخ.
هذه الأجواء تفرغ فكرة المسار الديمقراطي من مضمونها حتى تكاد تحولها إلى مجرد قناع يراد به التجمل وتغطية قسمات الوجه القبيح الذي تمثله تلك الممارسات. ليس ذلك فحسب وإنما هي تسيء أيضا إلى الوضع المستجد منذ الثالث من يوليو وتسحب من رصيد الثقة فيه والاطمئنان إليه، ناهيك عن أنها تمثل حرجا شديدا يبلغ حد الإهانة للأصوات القليلة الرصينة والمعتدلة في دائرة السلطة. وهو الحرج الذي لم يحتمله ضمير الدكتور البرادعي فآثر الاستقالة ومغادرة البلاد. ومع ذلك لم يسلم من حملة التجريح والاغتيال السياسي الذي باتت تستهدفه بصورة شبه يومية، وكانت جريمته أنه رفض الإهانة ولم يرد أن تتلوث يداه بدماء الألوف من المصريين الذين قتلوا خلال الأسابيع الخمسة الأخيرة.
إن أي مواطن محب لبلده لا يملك إلا أن يرحب بأي بادرة جادة تدفع المسار الديمقراطي وتعززه، إلا أن الممارسات الحاصلة على الأرض تصيبنا بالحيرة والإحباط، وتدفعنا إلى استعادة المثل القائل: أسمع كلامك أصدقك، أشوف (أرى) أمورك أستعجب. إننا نريد أن نصدقكم، فساعدونا يرحمكم الله.