لنترك التهذيب جانباً. لن نغطي الجروح بالمناديل. ولا الطعنات بالتمنيات. مزقت المأساة السورية المعادلة اللبنانية من الوريد إلى الوريد. لم نشهد تمزقاً بهذا العمق منذ ولادة لبنان المستقل. كانت الثقوب السابقة مختلفة وأقل حدة وخطورة. وكانت سورية المستقرة قادرة على ضبط الميول الانتحارية في لبنان وإن أذكتها أحياناً وتقاضت ثمناً مرتفعاً للجمها. إننا اليوم في تفكك داخلي غير مسبوق يضاعف من خطورته التفكك السوري المفتوح على كل الأخطار.
لم يحدث سابقاً أن أبحر المكونان الرئيسيان في لبنان في اتجاهين متناقضين ومتنابذين إلى هذا الحد وفي غياب كامل لصمامات الأمان الداخلية والإقليمية. يعيش السنّة والشيعة حالياً على شفير الفتنة وعلى وقع نزاعات تتجاوز الحدود اللبنانية إلى مسرح ممتد على مدى الإقليم الذي يشهد سقوط التعايش وسقوط الحدود أيضاً.
الانقسام حقيقي وعميق. تعرف مذهب المتحدث إن كان الحديث عن اليمن. أو البحرين. أو العراق. أما إذا كان الحديث عن سورية فيتعذر على المتحدث ضبط مشاعره وستر تبريراته مهما حاول تقديم نفسه في صورة مراقب أو متابع أو محلل. ثم إنه ليس من أمارات الصحة أن يمتلك بلد هذه الترسانة الضخمة من المحللين الاستراتيجيين خصوصاً منهم من يحللون ارتكاب المجازر سواء كانت من إنجازات النظام أم خصومه.
لنترك التهذيب جانباً. حين اندلعت النار في سورية أبحر كل مذهب في اتجاه وبغض النظر عن مجريات الأحداث. شعر السنّي في صيدا بأنه أقرب إلى السنّي في حمص منه إلى الشيعي الذي يعيش في حارة صيدا على بعد مئات الأمتار. شعر ابن حارة صيدا بأنه أقرب إلى العلوي في سورية منه إلى جاره السنّي في المدينة التي ولد فيها وكبر. شعر ابن الطريق الجديدة في بيروت بأنه أقرب إلى ابن الرستن في سورية منه إلى ابن الضاحية الجنوبية في بيروت والتي لا تبعد عنه أكثر من مئات الأمتار. شعر السنّي بأن الثورة هناك ثورته وشعر الشيعي بأن النظام هناك نظامه. شعر كل واحد منهما بأن الحرب حربه وبأن نتيجتها ستُحدد موقعه وتمس أمنه وسلامته.
جرفت المشاعر الحدود اللبنانية – السورية. بدت المؤسسات اللبنانية مهلهلة وعتيقة. ضاعف من هذا المناخ وجود حكومة اعتبرتها غالبية السنّة حكومة الآخرين لأنها قامت على أنقاض إقصاء زعيمهم الأول سعد الحريري، اعتبرتها غالبية السنّة حكومة السيد حسن نصرالله الزعيم الأول لطائفته. يدفع لبنان ثمن إقصاء القيادة السنّية المعتدلة. ففي هذا المناخ عبر شاب شمالي إلى الأراضي السورية للانخراط في الثورة، وعبر شاب بقاعي إليها للانخراط في التصدي للمؤامرة. وذهبت الأمور أبعد حين أعلن «حزب الله» رسمياً خوض الحرب على الأرض السورية. ولا يستغرب القرار من يعرف عمق علاقات الحزب بالنظام السوري والدور الذي لعبه نصرالله في تركيز قواعد التحالف السوري – الإيراني خصوصاً بعد غزو العراق.
وعلى وقع انتظار نتائج الحرب في سورية، وهي طويلة بطبيعتها ومختلفة عن تونس وليبيا ومصر واليمن بسبب نقطة الارتكاز الفعلية للنظام السوري، تخلّع ما بقي من الدولة اللبنانية واضعاً المؤسسات وحياة اللبنانيين في عهدة العجز والتفكك والجنرال فراغ. هكذا، راح لبنان يستجمع شروط «العرقنة» مسجلاً في الأيام الأخيرة تقدماً ملحوظاً مخيفاً.
مع الجريمة الإرهابية الوحشية التي استهدفت الضاحية الجنوبية من بيروت. ومع رد «حزب الله» بإعلان الحرب المفتوحة مع التكفيريين والتحاق الساحة اللبنانية بالسورية بعد إسقاط الحدود. ومع إدراك ضآلة الأوراق التي يملكها الرئيس اللبناني وضآلة إمكانات الجيش اللبناني في بلد تمزقت معادلته ومؤسساته. ومع شيوع المخاوف من السيارات المفخخة. في ضوء كل ذلك يصبح من حق اللبناني أن يخشى أن تكون بيروت على طريق بغداد. طبعاً مع الالتفات إلى أن من يتوهم الخروج رابحاً من موسم «العرقنة» اللبناني يرتكب خطأ مذهلاً. «عرقنة» لبنان لا تنجب إلا خاسرين.
مسكين لبنان. تُقلقه سورية القوية. تقتله سورية المضرجة بثاراتها. تمزقت معادلته وفاحت رائحة الطلاق بين السنّة والشيعة. المسيحيون فيه مساكين. «العرقنة» قد تضاعف من اقتلاع جذورهم. أمواج الإقليم عاتية وزعماؤهم تدربوا على السباحة في البرك المحلية. لو توافر لهم زعيم استثنائي صاحب رؤية وصدقية خارج طائفته لساهم على الأقل في الاعتراض على «العرقنة» وتأخيرها. أنصح الرجل الذي سيزعجه هذا الكلام بطرد مستشاريه.