نايف حواتمة/وجود إسرائيل حق تاريخي أم أمر واقع

في الثورة ومنظمة التحرير الفلسطينية تيارات وتعارضات حول وجود إسرائيل من حيث كونه أمراً واقعياً أم ‘حقاً تاريخياً’، كما جاء في الرسائل المتبادلة بين عرفات ورابين في 9/9/1993 أي عشية توقيع اتفاق أوسلو في 13/9/1993، بينما رسالة رابين الجوابية اقتصرت على الاعتراف بالشعب الفلسطيني دون أي إشارة إلى حقوقه الوطنية.

وقبل هذا نزل عرفات عند شروط ريغان الثلاث ديسمبر 1988 (حق إسرائيل في الوجود، نبذ العنف، القرار 242 أساس التسوية دون أي إشارة إلى حقوق شعب فلسطين، مقابل فتح واشنطن الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية فقط) والذي توقف فور عملية لجبهة التحرير الفلسطينية (أبو العباس) قبل أن تصل إلى شواطئ تل أبيب، ولم تعد واشنطن الحوار إلا بعد توقيع اتفاق أوسلو 13/9/1993.

في كل الأدبيات الصادرة عن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين نستعمل مصطلح ‘السلام الشامل والمتوازن’، ولم نستخدم في يوم من الأيام مصطلح ‘السلام العادل والشامل’، ولهذا تفسير، إذ انه لا يمكن لأي حل أن يمتلك العدل إذا ما انطلق في أسسه من موازين القوى القائمة. الحل العادل يكون فقط انطلاقاً من الأخذ بالحقوق التاريخية لشعب فلسطين المسنودة أخلاقياً، وأي حلول دون ذلك بما فيها السلام الشامل والمتوازن لا تمثل سوى تسويات تفرضها موازين القوى على الأرض.

الإيديولوجيا الصهيونية الدوغمائية لم تجد في محاولتها للقفز فوق حقائق التاريخ والجغرافيا سوى الهروب إلى ظلال المثيولوجيا التوراتية، وصبغت شعاراتها بالطابع الديني التوراتي الذي خاضت انطلاقاً منه الصراعات، وأخذت توزع التهم على كل من خالفها الرأي ‘العداء للسامية واضطهاد اليهود’.

ليس من باب الصدفة التاريخية المحضة كون ‘إسرائيل’ هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تملك دستوراً دائماً، ولا حدوداً معلنة.

تعتبر أحزاب وقوى الإيديولوجيا الصهيونية بأن دولتهم نشوءاً وحدوداً تتسامى فوق القوانين البشرية الوضعية، فأرض ‘إسرائيل’ حددتها مشيئة الرب في عهده مع إبراهيم ( ؟ !! )، الذي خص به من بعده ابنه إسحاق، وحق وجودها مصدره ‘وعد إلهي’ استمد مشروعيته منذ بزوغ فجر التاريخ، ويمتد إلى ما لانهاية، لأنه يدور وجوداً وعدماً مع وجود الرب الأزلي. بهذا المنطق يصبح استمرار وجود الفلسطينيين على أرض فلسطين لآلاف السنين قبل مجيء إبراهيم، ولأكثر من 3000 عام بعد خروج القبائل اليهودية من فلسطين الوسطى لا يشكل سنداً قانونياً لحق تملك هذه الأرض، ولو حتى عن طريق اكتساب هذا الحق بالتقادم مهما طال الزمن، لأن في ذلك مخالفة لمشيئة الرب التي تعلو مشيئته مشيئة البشر.

يقول الإصحاح 18 الفصل 15 من سفر التكوين: ‘في ذلك اليوم بت الرب مع إبرام عهداً قائلاً لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات’. هذا النص الذي أسس عليه الصهاينة خرافة ‘حقهم التاريخي’ في أرض فلسطين، وهم يعتبرون بأن أرض فلسطين بحدودها الانتدابية ليست إلا جزءاً صغيراً من الأرض التوراتية التي تمتد من ضفاف النيل إلى ضفاف فرات الرافدين.

الصهاينة ‘الإسرائيليون’ ينظرون إلى 15 أيار 1948، كحد فاصل بين الشتات اليهودي وعودة انبعاث الحق اليهودي المدعوم إلهياً، الذي جسّده قيام دولة ‘إسرائيل’.

‘الإسرائيليون’ والأمريكيون يرون بأن السلام لن يتحقق من خلال ‘الاعتراف الواقعي بوجود دولة ‘إسرائيل’ من قبل الدول العربية والفلسطينيين’، لأن هذا الاعتراف غير كاف ولا يغلق ملف النزاع بشكل مبدئي ونهائي كونه يقوم على أساس الأخذ بموازين القوى القائمة حالياً، والتي بتغيرها سيفتح ملف الصراع من جديد، ولا اعتبار عندهم هنا لكون هذا الاعتراف سيعني عملياً قبول العرب ومن ضمنهم الفلسطينيين ‘بإسرائيل الأمر الواقع’، وقبولها كدولة في المنطقة ضمن التزامات متبادلة، تعطيها العيش ضمن حدود معترف بها ومرسمة دولياً كما نصّ قرار مجلس الأمن الدولي 242، وكما تنص عليه مبادرة السلام العربية قمة بيروت ـ آذار/ مارس 2002 . وهو الأمر الذي لم تحققه منذ إعلان تأسيسها في 15 أيار 1948، رغم كل الحروب التي خاضتها وانتصرت بها، لأن المقاومة مستمرة وستستمر طالما أن التسوية السياسية غائبة، لذلك حسب رأيهم إن أي مدخل لحل مبدئي قابل للحياة هو اعتراف العرب والفلسطينيين بالمشروعية الأخلاقية والتاريخية لقيام دولة ‘إسرائيل’ مع ما يتطلبه هذا من تبعات وشروط.

الشرط الأول واللازم هو الإقرار ‘بيهودية دولة إسرائيل’، ودون مثل هكذا إقرار صريح يفقد أي اعتراف بعده الأخلاقي والتاريخي، ويتحول إلى مجرد اعتراف واقعي، ويجعل شرعية ‘إسرائيل’ مطعوناً بها، لا ترتقي لدرجة قوة الحق الإلهي الذي تدعيه سبباً في وجودها، ولأنه لا يضع حداً لآلام وعذابات واضطهاد اليهود على مر التاريخ، التي مارستها ضدهم شعوب الأرض، ومن ضمنهم العرب والفلسطينيين خلافاً لمشيئة الرب، كما تبشر المثيولوجيا التوراتية والإيديولوجيا الصهيونية .

والاعتراف بالطابع اليهودي لدولة ‘إسرائيل’ لا يكون إلا عبر الاعتراف بالأسطورة التوراتية التي أسست لهذا الحق وشرعت وجوده .

ولهذا الاعتراف تبعات فانطلاقاً منه علينا أن نعيد تصحيح المفاهيم، فالحركة الصهيونية تصبح حكماً، وبالنتيجة حركة تحرر قادت الشعب ‘اليهودي’ في حرب الاستقلال، التي مثلت الأساس اللازم لاستكمال تحرر الشعب اليهودي. وهنا يصبح من غير الجائز اعتبار قيام دولة ‘إسرائيل’ شكلاً من أشكال الاستعمار الاستيطاني الكولونيالي الإحلالي.

وبالقراءة عكسياً لمعاني هذا الاعتراف ‘الإقرار’ يصبح من غير المشروع الحديث عن الحركة الوطنية الفلسطينية كحركة تحرر وطني، وتفقد القضية الوطنية الفلسطينية توصيفها وأحقيتها كقضية شعب يناضل ضد الاحتلال، وأمام إقرار المشروعية الأخلاقية والتاريخية لدولة ‘إسرائيل’ تسقط حتماً مشروعية الكفاح الوطني الفلسطيني، ويصبح بديهياً الحديث عن كافة أشكال النضال الفكري والدعاوي والمسلح ضد الاحتلال ‘الإسرائيلي’ كأشكال من الإرهاب غير المشروع، يمس بالحق اليهودي في أرض ‘إسرائيل’، ولا يصبح كافياً الإقرار بما تفرضه موازين القوى في إعادة ترسيم الجغرافيا السياسية لصالح شرعنة وجود دول ‘إسرائيل’. الأمور لا تستقيم إلا بإعادة صياغة التاريخ من جديد، وهذا يتطلب بالإضافة إلى إسقاط صفة التحرر عن الحركة الوطنية الفلسطينية وقف التحريض، وتغيير المناهج الدراسية العربية، بما فيها الفلسطينية وعلى وجه الخصوص مناهج التربية الدينية والتاريخ التي تحض على المقاومة ضد ‘إسرائيل’.

بمعنى آخر المطلوب عملية تزييف كاملة للتاريخ عبر عملية غسل دماغ شاملة، وشطب للذاكرة، وهذا يتطلب أولاً إسقاط حق العودة من معادلة الصراع والحلول المفترضة.

بعد كل هذا يصبح من حقنا أن نسأل إذا كان المدخل للحل المبدئي حسب المفهوم الإسرائيلي المتبنى أمريكياً هو الاعتراف بالحق الأخلاقي والتاريخي لمشروعية قيام دولة ‘إسرائيل’ فإلى أي حق ستستند مطالبنا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ؟!

‘الإسرائيليون’ الصهاينة يعتبرون أن الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة حق مشروع وواجب مقدس، لأنه يقع ضمن الحدود التوراتية لدولة ‘إسرائيل’، ويعتبرون أن استمرار الوجود الفلسطيني الشاذ على هذه الأرض جعلها أرضاً متنازعاً عليها بين شعبين: الشعب اليهودي الذي يستمد وجوده من ‘الحق التاريخي’ في أرضه الموعودة، والشعب الفلسطيني الذي يستمد حججه في النزاع من واقع حال إقامته على الأرض طوال سنوات الشتات اليهودي، الذي بدأ منذ أكثر من 3000 عام، لذلك فهم يعلنون بأن حل هذا الوضع الشاذ سيملي على ‘إسرائيل’ تقديم تنازلات مؤلمة كما يزعم شارون وقوى اليمين الليكودي والتوراتي بتنازلهم عن بعض أراضي دولة ‘إسرائيل’.

انطلاقاً مما سبق نستطيع أن نحاكم النتائج الخطيرة، التي دفعت بها واشنطن في قمة شرم الشيخ، وبوش وشارون في قمة العقبة، فما قدم من تنازلات فكرية وسياسية فلسطينية لا يدخل في باب التكتيك والمناورة السياسية المشروعة التي تمكن من الانحناء أمام العاصفة، بما يقلل الخسائر إلى الحد الأدنى . فوصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب هو في جوهره تبرئة للحركة الصهيونية من كل الويلات والمذابح والاضطهاد الذي مارسته بحق الشعب الفلسطيني، وتخلي العرب في شرم الشيخ عن مطلبهم بضرورة التفريق بين الإرهاب والمقاومة المشروعة للاحتلال والاستعمار عملاً بقرارات قمم القاهرة وعمان وبيروت، والقرارات الدولية منذ عام 1947 حتى يومنا هذا، ونزولهم عند الفهم الأمريكي الإسرائيلي يمثل الخطوة الأولى على طريق إسقاط الصفة التحررية عن القضية الوطنية الفلسطينية، وبعدها القومي والإنساني العالمي، وتحميل الفلسطينيين جزءاً من المسؤولية عن عذابات اليهود كما ورد في خطاب محمود عباس ربطاً بالالتزام الذي قطعه بوش بصيانة ‘طابع يهودية دولة إسرائيل’. يدخلنا في شرك الإقرار بالحق الأخلاقي والتاريخي لدولة إسرائيل، بما يتطلبه من شروط ويحمله من تبعات كما سبق وأسلفنا .

عود على بدء إن مدخل أي حل متوازن وشامل هو اعتراف ‘إسرائيل’ بمبدأ كونها قوة احتلال، بما يعني تفكيك بنية الاحتلال الاستيطانية بالكامل وانسحاب قواتها إلى ما وراء حدود 4 حزيران 1967، وتوقفها عن ممارساتها العدوانية التوسعية ضد الشعب الفلسطيني وأرضه، بما يفتح على إقامة دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة في عدوان حزيران 1967، بما فيها القدس وعودة اللاجئين حسب القرار 194.

الاعتراف ‘بإسرائيل’ يمثل أمراً واقعاً. فرضته موازين القوى القائمة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يرتقي إلى مصاف الاعتراف بالحق التاريخي والأخلاقي الذي شكل الأساس الإيديولوجي للعقيدة الصهيونية الإسرائيلية الاحتلالية، وممارساتها الدموية ضد الشعب الفلسطيني، بغية سرقة أرضه ودفعه إلى بلدان اللجوء والشتات.

الحل الجذري للصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يكون إلا بزوال الطابع الاحتلالي العنصري عن دولة ‘إسرائيل’، عندها لن تكون كما أرادها وخلقها بناة الحركة الصهيونية استناداً للمثيولوجيا التوراتية على حساب شعب وأرض فلسطين.

تعترف الأمم المتحدة بـ (83 ديناً) في هذا العالم من بينها الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وفي مطلع الألفية الثالثة عقدت الأمم المتحدة مؤتمر قمة لرؤساء هذه الأديان. فماذا لو تمت إعادة تشكيل العالم وفق المثيولوجيا والوعود الدينية ؟ عندها ستتغير خارطة الكثير الكثير من الدول والشعوب، وستنقلب الكثير من المفاهيم والحقوق، وقد لا تبقى العديد من الدول دولاً، وفي المقدمة دول الأمريكيتين واستراليا.

– الأميـن العـام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

Related posts

الرئيس عباس واليوم التالي!

رئيس حزبي لمجلس النواب العشرين*أ. د. ليث كمال نصراوين

من يدفع فاتورة الحرب وكيف نتعامل مع آثار العدوان؟* حسين الرواشدة