يستدعي خلط الأوراق الذي تشهده دول الربيع العربي رصد تأثير معطياته الجديدة على مواقف الدول الكبرى والقوى الخارجية المتعارضة والمختلفة، من مستجدات الأحداث الجارية، وترقب التغييرات في حسابات هذه الدول صاحبة التأثير، لا سيما في سورية.
فالمواجهة العنيفة في مصر بين الجيش مدعوماً من القوى الليبرالية والقومية والشبابية والأطياف الدينية وبعض القوى الإسلامية، مع «الإخوان المسلمين»، والصراع السياسي الذي تتخلله اغتيالات وإراقة دماء في تونس بين القوى العلمانية واليسارية والليبرالية والإسلام السياسي المعتدل وبين «النهضة»، النسخة التونسية لـ «الإخوان»، هي في صلب خلط الأوراق هذا الذي يشهده الإقليم.
وإذا كان يمكن تسمية ما يجري في المنطقة حين تضاف مجريات الأحداث في كل من مصر وتونس الى ما يجري في العراق واليمن وليبيا ولبنان، بالفوضى التي تعم الإقليم، فإن أبرز ما تكشفه تلك الفوضى هو الضياع في مواقف القوى الكبرى ومنها روسيا…
وفي حين تشترط الولايات المتحدة على المعارضة السورية أن تواجه القوى الإسلامية المتطرفة في سورية»، لا سيما «جبهة النصرة» و «الدولة الإسلامية في العراق وسورية، من أجل تقديم الدعم بالسلاح لها، فإنها سعت قبل فض الشرطة والجيش المصريين اعتصام «الإخوان» الى مصالحة بينهم وبين انتفاضة 30 تموز (يوليو) متجاهلة ممارسات «الإخوان» التي أجهضت قيام نظام تعددي متنوع في مصر، وأخذت موقفاً متعاطفاً معهم عند فض الاعتصام قافزة فوق دورهم في إذكاء العنف، وفوق التظاهرات الشعبية المليونية ضد تفرّد «الإخوان» واستئثارهم.
أما روسيا، فإنها في سورية تتيح للنظام أن يتّبع تكتيكات يتقنها، من نوع تسليم بعض المناطق للإسلاميين المتشددين قبل أشهر، أي «النصرة» و «دولة الإسلام في العراق وسورية»، كما حصل في الرقة، لإطلاق صراع بين هؤلاء وبين «الجيش الحر» وبينهم وبين القوى الكردية في شمال شرقي البلاد. وموسكو تفرّجت على ذلك، على رغم أن حجتها الرئيسة في وقوفها الى جانب النظام هي قلقها من سيطرة الإسلاميين المتشددين والإرهابيين على سورية، في حال سقوطه، وفي مصر تغض موسكو النظر عن قمع النظام لـ «الإخوان» لا لسبب إلا لأن واشنطن أخذت موقفاً اعتراضياً على فض اعتصام هؤلاء.
تتعامل الدول الكبرى مع أوضاع كل بلد عربي في شكل موضعي، وفق ما تقتضيه مصالحها، حتى لو كشف ذلك غياب التجانس أو التماسك في توجهاتها بين ساحة وأخرى.
وليس اختراعاً القول إن القوى الكبرى تفاجأ في كل مرة بالتطورات في هذه الدول وبالوقائع التي تنتجها دينامية تحركات الشعوب وتعدّل وتغيّر من مواقفها وفقاً لتبدل موازين القوى. وهذا يثبت مرة أخرى أن صناعة الأحداث في الربيع العربي تتم نتيجة حراك القوى الاجتماعية المحلية، وأن قوى الخارج تسعى الى التكيّف معها، لأنها طالما يستحيل تدخلها المباشر لإدارة الأمور في هذه الدولة أو تلك، تسعى الى ملاءمة توجهاتها مع المعطيات الجديدة.
في شهر نيسان (أبريل) الماضي حين التقى الرئيس فلاديمير بوتين مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري والوزير الروسي سيرغي لافروف في موسكو، اتفق الجانبان على مؤتمر «جنيف – 2» حول الحل السياسي في سورية في الشهر الذي يلي، أي أيار (مايو)، وما زال المؤتمر يتأجل من شهر الى آخر، الى أن أمل لافروف الجمعة الماضي بأن يعقد في تشرين الأول (اكتوبر) المقبل. كانت موسكو تراهن على حصول تقدم عسكري لمصلحة النظام، منه احتلال قواته مع «حزب الله» مدينة القصير. وثبت لاحقاً أن هذا التقدم لا يعني أن النظام سيتمكن من تثبيت انتصاراته، ليصاب بنكسات في مناطق أخرى.
من مفارقات تأثير موازين القوى الميدانية على مواقف الدول، أنه في وقت تشهد العلاقة الأميركية – السعودية تباعداً واختلافاً إزاء التطورات في مصر، وخيار التسليح النوعي للمعارضة السورية، فإن العلاقة الروسية – السعودية التي اتسمت بالتوتر بسبب الفيتوات الروسية في مجلس الأمن إزاء أي قرار متشدد حيال نظام بشار الأسد، شهدت محاولة جدية لإحياء تفاهمات سابقة كانت طرحت عام 2008 بين الجانبين، في المحادثات التي جرت قبل أسابيع بينهما والتي تناولت مستقبل سورية وإمكان التوصل الى تسوية سياسية حول بلاد الشام تنتهي برحيل الأسد. وإذا شكل هذا الانفتاح بين الجانبين اختراقاً محدوداً يؤسس لبداية حوار جدي، فإن ما يجمع الدولتين في هذه الظروف هو مواجهة خصم مشترك هو التطرف الإسلامي الذي تخشى موسكو من تأثيره على جمهورية الشيشان في الاتحاد الروسي، فالأرجح أن تقدمه يتوقف على الوضع الميداني في سورية، بموازاة المعادلة التي ستستقر عليها مصر.
فموسكو تتجه الى التخفيف من آثار خلافاتها مع سائر الدول، ومنها أوروبا، حول الأزمة السورية، على علاقاتها معها.