أحمد القديدي/الوفاق لا الشقاق مصير العرب

تتخبط مصر وتونس وليبيا في خريف عاصف من الانقسام والمخاطر بعد الحلم بربيع قادم مأمول وقد لفت نظري منذ أيام رسم كاريكاتوري على صحيفة (الحقائق) الصادرة بلندن للفنان المبدع ماجد بدرة، رسم فيه مواطنا عربيا يدفع صخرة أكبر وأثقل منه من سفح الجبل إلى قمته كتب عليها الرسام عبارة (الوفاق الوطني). وقد كان الرسم أروع وأفصح وأبلغ من مقال، جسد صعوبة بل استحالة السعي وراء الوفاق الوطني في بلداننا العربية، فكلما دفع سيزيف العربي المسكين صخرة الوفاق بصدره وذراعيه نحو القمة إلا وتهوي من جديد نحو السفح، وهكذا دواليك منذ نصف قرن من الصدام المرير بين الدولة العربية الحديثة التي جاءت بها مرحلة الاستقلال وبين شرائح من المجتمع العربي تريد تقويض البناء من أساسه لا إصلاح الخلل فيه أو محاورة النخب الحاكمة بالتي هي أحسن.

وهذه الحال العربية مع الأسف متواجدة في أغلب بلاد العرب باختلافات طفيفة في الحدة والشدة واللين والغلظة والقوة والدفع، لكنها صراعات أهلية مفتوحة لا نرى لها في جل الحالات حلولا ترضي الجميع. وبصراحة لا أرى لنفسي شخصيا ولقلة من المثقفين الوطنيين العرب غير هذا الرسم للتعبير عن المعاناة التي نلقاها من هنا وهناك كلما دعونا للحوار المسؤول وللوفاق الضروري، بغاية رأب الصدع الذي أصاب مجتمعاتنا منذ انحياز بعض مكونات المعارضة المتشددة إلى العمل العنيف أو القول المهدد، في بلاد لم تتهيأ لقبول انتفاضات مجهولة العواقب ووخيمة النتائج، في مجتمعات لا تدرك نوايا المتشنجين، لأن الأغلبية تشعر بالأمن وبالاستقرار ضمن أطر الدولة الحديثة، رغم النقد الطبيعي لبعض مظاهر الضيم أو البطء في تحقيق المأمول.

ولقد ساد منذ عقود من العصر الحديث منطق موسى وفرعون، كأنما امتلك بعض الناس فجأة عصى موسى عليه السلام وأصدروا حكما جائرا وباتا على النخب الحاكمة بأنها هي فرعون وأنها هي الطاغوت، ولكن دون الاستماع حتى لقول الله تعالى الذي أمر موسى وأخاه هارون بأن يقولا قولا لينا. وهذا المنطق الخاطئ هو الذي نشأت عنه ردود الفعل العنيفة من قبل الماسكين بدفة الحكم والتي صعب بعدها ايجاد حلول عقلانية لأزمة سوء التفاهم العميقة والقاسية والطويلة.

وطالما فوجئت بسهولة وعبثية التصنيفات التي يقوم بها البعض من الشباب للناس من حولهم، كأنما المطلوب أن نوضع في قوالب جاهزة من الشعارات والانتماءات والايديولوجيات لا نخرج منها، وإلا وجهوا إلينا تهما جاهزة هي الأخرى بالنفاق والمروق والتذيل، خاصين أنفسهم بالطهارة والعصمة واحتكار الحق، بينما الواقع السياسي في بلاد العرب جميعا واقع أكثر تعقيدا وتشابكا وتنوعا من الأحلام الطوباوية. فالخير ليس له ضفة واحدة والشر ليس له الضفة الأخرى. وليس هناك جناح انفرد بالأبيض الناصع وجناح أصابته لعنة الأسود القاتم. وأنك تجد الصالح في كوادر الدولة ووزاراتها وفي هياكل الأحزاب الحاكمة كما تجد الصالح لدى المختلفين مع التوجهات الرسمية، بنفس النسب، مما لا ينفي تواجد الطالح هنا وهناك أيضا. وسر التقدم هو الاختلاف من دون حقد، والتباين بلا ضغينة، وتوخي سبل الكلمة الطيبة من أجل الإصلاح، دون قطع شعرة معاوية، لسبب عقلاني بسيط هو أنه لا بديل عن هذه السبيل ولا مناص من هذا النهج القويم. وأننا نريد أن نستلهم من تجارب الأمم التي تقدمت علينا في الفكر السياسي، وبلغت بالترفع عن الأحقاد شأوا بعيدا من التقدم والرفاه والأمان. وبلدان الاتحاد الأوروبي في مقدمتها بحيث نرى نماذج من إدارة الاختلاف والتنوع تدعو للإعجاب والتقدير، فالمملكة البلجيكية مثلا تتشكل عرقيا وثقافيا ولغويا من ثلاثة شعوب، طالما شنت الحروب على بعضها البعض في محطات عديدة من تاريخها، ثم استقرت أحوال المملكة على فيدرالية متوازنة ومتحضرة لم تمس من جوهر الانتماء لبلاد واحدة وراية واحدة ومصير مشترك. كذلك الأمر في بلاد سويسرة حيث تتعايش شعوب ثلاثة أيضا لتصنع مستقبلها وتحقق أعلى نسب النمو والدخل الصافي في العالم. ولعل نماذج ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا لا تختلف كثيرا من حيث اعتماد الحوار والوفاق لحل الصراعات والاهتداء إلى السلام المدني والدخول بثقة إلى التاريخ.

ولعل بعض القراء يردون علي بالقول بأن هذه الأمم متقدمة ونحن متخلفون ولا وجه للمقارنة، وهنا يكمن الخطأ الشائع في تقدير العرب، لأن بعض البلدان الأوروبية مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا لم تلتحق بالاتحاد الأوروبي إلا بعد حل أزماتها الداخلية وإقرار الوفاق المطلوب منها أوروبيا منذ ثلاثة عقود فقط، فتحولت من الانغلاق إلى الديمقراطية وتضاعف معدل نموها الاقتصادي أربع مرات بعد أن كانت هذه البلدان الثلاثة لا تختلف في شيء عن أية بلاد عربية أو نامية فاغتنت الدول الأوروبية هذا الوفاق لسن سياسة اقتصادية في حين فالأمر يتعلق إذن بالإرادة السياسية والوعي الحضاري لا بواقع الحال ونسبة النمو ونقص الإمكانات. فالتردد في إجراء المصالحة بين مختلف شرائح المجتمع هو سبب من أسباب التخلف، وعوض البدء بالخطوة الأولى على هذا الطريق المستقيم بلا عقد ومن دون خلفيات، نتوه في وضع الشروط والمزايدة اللفظية واتهام المختلفين عنا بأشنع الصفات، فنضيع فرصة جديدة سانحة ونوصد الباب دون الكلمة الطيبة لنعود إلى نقطة الصفر وننتظر ربع قرن آخر من المعاناة وتفاقم المأساة.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري