لم يعرّج بشار الأسد في الذكرى الـ62 لتأسيس الجيش العربي السوري ولو بعبارة عابرة على الوضع الذي يمر به جيش انشقّ عنه أكثر من 60 في المئة من ضباطه وجنوده. لكن ضابطاً اسرائيلياً لاحظ أنه «طالما لم يتمكّن هذا الجيش من القتال في القصير إلا بمساعدة «حزب الله»، فهذا يعني أن حاله سيئة جداً». لم يقل الاسد ولا كلمة عما فعله بهذا الجيش، عن أكثر بكثير من مئة ألف قتيل أو عن ضعفهم بين سجين ومفقود أو عن ثلث الشعب بين مهجّر ونازح. حتى «العدو المتربص»، كما سمّاه، ما كان ليقتل ويأسر ويشرّد على هذا النحو. لم يقل إن عسكريين من طائفته كانوا يقودون عمليات القمع في اوائل الثورة وكانت لديهم أوامر خاصة بإعدام العسكريين من الطوائف الاخرى الذين لا ينفّذون أوامر واضحة بقتل أهلهم من المتظاهرين العزّل. ولم يقل إن الجنود تركوا صفوفه قبل أن يقتل ضمائرهم ويجعلهم مجرمين يذبحون الأطفال وينكّلون بالنساء والعجزة ويستبيحون الحارات وينهبون البيوت. لكنه قال للذين بقوا معه وقاموا بكل هذه الجرائم إنهم الأقدر على تجسيد «القيم الوطنية والقومية والانسانية»!
وبهذه «القيم»، أكد الأسد ثقته بـ«الانتصار» أو ما يعتبره «انتصار نهج المقاومة». لكنه يعلم واقعياً أنه لم يعد هناك نصر يمكنه إحرازه. وإذ رتّبت له زيارة ليتفقّد داريّا، من أجل التقاط صورة ميدانية يضيفها الى حسابه على «انستاغرام»، فإنه اختار الموقع الذي سجّل فيه «جيشه» أبشع الصفحات في «السلم» عندما اغتصبوا أراضي يملكها مواطنون واستولوا عليها بالقوة لإقامة مستوطنة لـ«الشبيحة»، وأبشع الصفحات في «الحرب» حين حوّلوا الجزء الأكبر من داريّا أرضاً محروقة. كان ثمة عمران حيث التقطت الصورة للأسد، لكنه سوّي بالأرض. ومن هذا المكان وبهذا الانجاز رأى الاسد أن يبشّر بـ «انتصاره» على الشعب والجيش معـــاً وأن يهـــدي هذا «النـــصر» الى «العدو». وحده العدو (الاسرائيلي) يحقق النصر الأكبر من دون أن يطلق رصاصة واحدة.
لا شك في أن الاسد يتطلع الى «نصر» عسكري يصلح تمهيداً لنصر سياسي سيحاول تحقيقه من خلال ما يسمّى «جنيف 2»، وهو حدّد مسبقاً هامش المناورة، فلا تبدّل في شروطه الرئيسة (لا مساس بالبنية العسكرية والأمنية ولا بالصلاحيات المتعلقة بها). في المقابل، سمع وفد «الائتلاف» السوري من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، خلال الجلسة الخاصة أو في لقاءات على هامشها، إلحاحاً على المعارضة كي تعلن موقفاً ايجابياً وقبولاً حيال المؤتمر الدولي المزمع.
لكن كان هناك أيضاً تفهم للملاحظات التي طرحها الوفد، ومنها أن الشعب السوري لم يثر سعياً الى الصراع الدموي الدائر حالياً أو بحثاً عن أسلحة، لكن النظام هو من فرض هذا الوضع ولا يزال مصرّاً عليه، ثم إن المجتمع الدولي أخفق في تحمّل مسؤوليته بحماية المدنيين وفي ردع انتهاكات القوانين الدولية التي ارتكبها النظام، وفي الوقت الذي أحجمت القوى الدولية عن التدخل المباشر لوقف التدهور ووضع حدٍّ للنزاع، لم تتوانَ روسيا وإيران وحلفاؤهما عن التدخل بإرسال آلاف المقاتلين والخبراء لمساندة النظام… والآن يراد للمعارضة أن تنخرط في حل سياسي لا ملامح واضحة له ولا ضمانات لتلبيته طموحات الشعب ولا نية لتفعيل العدالة الدولية ومحاسبة النظام على جرائمه ليس بحق السوريين فحسب وإنما بحق الانسانية أيضاً.
صحيح أن المعارضة لم تنجح في انتاج قيادة ذات صدقية أو في بلورة بديل من النظام، وكانت لهذا التقصير أسباب معروفة هي نتيجة خمسة عقود من الارهاب السلطوي وإلغاء السياسة وسحق المجتمع المدني. لكن كيف يمكن تبرير تقاعس المجتمع الدولي عن أي مبادرة لوقف القتل، وبالتالي خضوعه الفعلي لإرادة نظام تجاوزت جرائمه كل حدود؟ صحيح أيضاً أن الحل لا بدّ من أن يكون سياسياً، وهو ما اقترحه الحراك السلمي في البداية، ومثل هذا الحل يفترض أن يكون هناك «رجال دولة» في سدّة المسؤولية يأخذون ارادة الشعب في الاعتبار ويتعاملون معها بحدٍّ أقصى من المصلحة الوطنية، إلا أن سلوكهم الهمجي خالف كل التوقعات العقلانية بل دحض حتى الحجج الروسية (والاميركية) بوجوب الحفاظ على المؤسسات مهما كلّف الأمر للحؤول دون تفكك الدولة وانزلاق البلاد الى حرب أهلية، بل إن النظام استخدم هذه الحجج لابتزاز القوى الدولية اذ أمعن في الوحشية سواء باتباع التدمير المنهجي للمدن والبلدات الكبرى أو بإعمال سياسة الأرض المـــحروقة حـــيثما تـــعذّر عليه حسم المواجـــهات عسكرياً، اي أنه منذ «جنيف 1» قبل 14 شهراً انكبّ على قتل أي احتمال لحل لا يكرّس «انتصاره» وعودة سيطرته.
كل ذلك يعني بوضوح أن ذهاب المعارضة الى جنيف ليس وارداً في ظل الوضع الراهن، ميدانياً وسياسياً، على رغم أنها لم ترفض الاقتراح مبدئياً. كان هذا ما أراد الاميركيون سماعه وتسجيله للبناء عليه مع الروس، حتى أنهم لم يرفضوا ملاحظات وفد «الائتلاف»، بل قالوا إن لا داعي للخشية من «جنيف 2» لأن «هدفه اقامة حكومة ذات صلاحيات كاملة»… حسنٌ، لكن ما الضمانات؟ سأل «الائتلاف» عنها ولم يتلقّاها، قيل له إنها ستتوافر خلال التحضير للمؤتمر.
وماذا عن التسليح؟ لا جديد أكثر مما كانت واشنطن أعلنته سابقاً، وعلى رغم أنها تؤيد استعادة التوازن الميداني، إلا أنها لم تغادر حذرها. وكيف يمكن التفاوض مع نظام يواصل القتل والتدمير؟ هنا يرى الأميركيون ضرورة وقف اطلاق النار «من الطرفين»، وليست لديهم فكرة واضحة عن طريقة فرضه، لكنهم يشيرون الى «مجلس عسكري مشترك» يمكن أن يتولّى ذلك. وما صلاحية هذا المجلس؟ لا تزال غامضة، لكن يبدو أن النظام لا يمانع تشكيل مجلس كهذا لمهمات اجرائية، لا لأهداف استراتيجية كإعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية، ما يعني نظرياً أن تقتصر صلاحية المجلس على أن يحافظ كل طرف على ما يكون قد حصّله خلال الفترة السابقة لـ «جنيف 2»، علماً أنه لن يُعقد ويباشر عمله غداً أو بعد غد، وكل ساعة تمضي تحمل المزيد من الضحايا والدمار.
كان وفد «الائتلاف» يرغب في أن يُدعى الى واشنطن، الى البيت الأبيض، لكن الاميركيين قصروا زيارته على مقر الأمم المتحدة في نيويورك. هذا يعبّر أيضاً عن «النأي بالنفس» الاوبامي. حتى «جنيف 2» يذهب في السياق نفسه، فالاميركيون يريدونه «للتهرّب من أي التزام تجاه الشعب السوري». لكن الأسوأ، كما يقول أحد قادة المعارضة، أنهم «يعرقلون أو يجمّدون التزام دول أخرى، ولن نستطيع المشاركة في «جنيف 2» إلا اذا توافرت ضمانات اميركية – اوروبية – عربية».
وهكذا، فبعد عامين ونصف العام على المقتلة المستمرة «لا يزال الاميركيون يجدون صعوبة في المراهنة على المعارضة وهي أدركت من جهتها حدود المراهنة عليهم، وأكثر ما نأمل به ألا ينقلبوا علينا في أي صفقة مع الروس». كان موقفهم أخلاقياً ومرتبطاً بالأعراف الدولية، لكن النظام استخدم أدوات الإبادة والدمار الشامل، كصواريخ «سكود» والسلاح الكيماوي، ارتكب أفظع المجازر ودمّر المدن، أدخل قوات ايرانية ومقاتلين من العراق و«حزب الله»، أشعل فتيل صراع سنّي – شيعي، وضع لبنان ثانيةً تحت رحمته، استدعى ارهابييه من الأماكن التي كان أرسلهم اليها، ولا يزال يهدد بإشعال المنطقة، ومع ذلك لم تحرّك اميركا ساكناً… هل يعني ذلك شيئاً آخر غير أنها بنت سياستها لسورية على أساس أن النظام أبدي وكل ما تريده منه أن يرعى أمن اسرائيل لقاء ضمان نظامه مهما ارتكب داخلياً، ألم يمنحوه تغطية بعد مجازر 1982، ألم يمكّنوه من تعميم هذه المجازر طوال العامين الأخيرين»؟
* كاتب وصحافي لبناني