مثلما تحضر تطورات الربيع العربي في حسابات القوى السياسية في كل الدول العربية، حضرت في خلفية مواقف هذه القوى في الانتخابات الكويتية التي أجريت السبت الماضي، ولو جزئياً. فالتطورات في كل من مصر وتونس رأى فيها الموالون مبرراً لسلوك حذر، يجنب البلد الانزلاق إلى حال عدم الاستقرار التي تعصف بالدول الشقيقة، فيما ذهب غلاة المعارضين إلى حد إسقاط الوضع في هذه الدول على الكويت، في التعبئة الانتخابية ضد نظام الحكم، فاستعان بعضهم بمثل رحيل الأنظمة في تونس ومصر وليبيا واليمن… للاستدلال على مشروعية معارضتهم. وهو أمر بعيد من الواقعية لاختلاف المشهد السياسي بين الكويت وهذه الدول. فهل يتساوى إعلان الأمير صباح الأحمد العفو (قبل 3 أيام) عمن حُكموا في قضايا المساس بالذات الأميرية قبل أشهر، بالقمع الذي مورس أو يمارس على المعارضين في هذه الدول مهما كانت الشوائب التي يرصدها المعارضون الكويتيون في تطبيق القوانين؟
ولعل فرادة الكويت في نظامها السياسي الوراثي – البرلماني هي التي تتيح استيعاب تأزمها السياسي عبر اللعبة الديموقراطية، كما شهدت على ذلك انتخاباتها الأخيرة التي أنتجت برلماناً جديداً تنعقد عليه الآمال من أجل تأمين استقرار سياسي تشريعي بعد نيف وسنتين من التوتر والمراوحة التي لامست الشلل في عمل الدولة. فالإقبال على صناديق الاقتراع أثبت أن المقاطعة التي غلبت على انتخابات المجلس المنحل بقرار من المحكمة الدستورية، تراجعت إلى حدودها الدنيا، مع اشتراك قوى إسلامية وقبلية وليبرالية كانت تجاوبت مع المعارضة في انتخابات بداية العام.
ومع أن كبار الحكماء في الدولة الخليجية الأولى التي اعتمدت منذ 1962 نظام الانتخابات النيابية، يرددون أن «أكبر مشكلة في الكويت هي أنه لا توجد مشكلة»، فإن مصدر هذا النفي الساخر أن المعارضين افتقدوا إلى البرنامج الواضح في إثارة المعضلات الحقيقية التي تواجه إحدى الدول الأغنى في العالم، والأكثر تقديماً للخدمات الاجتماعية والتربوية والصحية والإسكانية، والتي تحول منحها للمواطنين إلى أحد أشكال «الزبائنية» المصحوبة بالفساد والهدر.
فبعض المعارضين غلّفوا احتجاجهم على حجب حصتهم من هذه الخدمات «التنفيعية»، بالشعارات الكبرى التي تفوق قدرة التركيبة الاجتماعية والسياسية للكويت على الاحتمال، والتي تغفل عن المشاكل الجوهرية والداهمة، بما فيها المحاسبة على الفساد وضبط المالية العامة. بل إن الإسلاميين من المعارضين ذهبوا إلى الالتهاء بإصدار قوانين فئوية – عقائدية متشددة تناقض الانفتاح الذي ميز الكويت، حين حصلوا على الأكثرية في برلمان 2012 الذي حُلّ ليأتي البرلمان السابق على أساس الصوت الواحد للمرشح الواحد بدل القانون السابق، بالتصويت لـ4 مرشحين. جمّدت المماحكة التشريع الذي يعالج مشاكل التنمية والإصلاح العميق لبنى الدولة، لمصلحة لغة التحدي في الخصومة مع الحكم. وهو ما جعل الموالين يتغنون بأن المجلس الأخير المنحلّ استطاع إقرار 28 قانوناً و26 اتفاقية دولية حال دون إصدارها الشلل الذي أصاب برلمان 2012.
من المشاكل الجوهرية أن الخطة التنموية تفترض نمواً بالإنفاق بنسبة 7.5 في المئة فيما نمو الإيرادات غير النفطية مع افتراض ارتفاع الإنتاج النفطي، سيبلغ نسبة 4.5 في المئة (تقرير وزارة المال ومجلس التخطيط عن الاحتمالات) ما ينتج عجزاً تراكمياً في الموازنة العامة يبلغ رقماً مخيفاً، هو 414 بليون دينار بحلول عام 2020 – 2021. وهو ما سيقود إلى استنزاف احتياطي الدولة وصندوق الأجيال الذي تفتخر الكويت بأنها كانت سباقة إلى إنشائه. وفي بلد ينص دستوره على تأمين الدولة العمل للكويتيين، يتضخم عدد موظفي القطاع العام إلى 310 آلاف (وسط تململ من عدم إنتاجيتهم وغلبة التنفيع) أي ربع عدد السكان، وتشير التوقعات إلى الحاجة لتأمين 460 ألف وظيفة للخريجين. والكويت خامس دولة في العالم في الإنفاق على التعليم، بينما تقع في المرتبة 90 في مستواه. إنها عينات عن عمق المشاكل الكبرى.
إذا صح أن البرلمان الجديد سيتمكن من الإنجاز، فإن هذا يفترض قيام ورشة طوارئ كويتية إن على مستوى الحكم أو على مستوى المعارضة لاستلحاق المعضلات. فعلى جدية معالجتها يتبين الغث من السمين في سلوك كل منهما.
بعض الأكاديميين الكويتيين من القانونيين والاقتصاديين يلمحون إلى أن التصدي لهذه المشاكل قد يحتاج، سياسياً، إلى صيغة توسع قاعدة الحكم لمصلحة فئات اجتماعية صعدت خلال فترة الرخاء الاقتصادي الماضية. ولربما الغموض في المطالب ينتج ممارسات عشوائية تسببت بتوالي حل البرلمان.
هل يتطلب الأمر قيام غرفة ثانية (مجلس شيوخ أو أعيان) بموازاة البرلمان؟ أو زيادة عدد النواب الخمسين؟ أم انتخاب رئيس الوزراء من مجلس الأمة؟ أو الاكتفاء بتحديث القوانين المتناقضة؟ أم تطبيق الدستور بوضع قانون ينظم نشوء الأحزاب؟ هذا ما يمكن الورشة المفترضة أن تحسمه على قاعدة التوافق.