ليس من شك في أن الجانبين المأزومين، بدرجات مختلفة، والمتنازعين حول كل فاصلة ونقطة من خطاب السلام الرائج منذ نحو عقدين كاملين، كانا يجران أقدامهما بتثاقل شديد على الطريق إلى واشنطن، للشروع في عملية تفاوضية جديدة. فلا الجانب الفلسطيني تمكّن من تحقيق متطلباته للبدء في مثل هذه العملية المنذورة للتعثر الممض والإخفاق المديد، ولا الجانب الإسرائيلي، وهو في تمام التمام، كان في وارد فتح عش الدبابير على نفسه، وجلب الصداع لرأسه من جديد.
وبالرغم من نجاح الضغوطات الأميركية الهائلة في حمل الطرفين المفتقرين إلى الحد الأدنى من الثقة المتبادلة، على القبول بالعودة مرة أخرى إلى هذه الحلقة الجهنمية، إلا أنهما ظلا على رؤيتهما المتعارضة، ومواقفهما المسبقة، وشكوكهما العميقة بإمكانية اختراق يفتح الطريق نحو تحقيق ما فشلت فيه كل الضغوطات والمبادرات واللقاءات السابقة، الأمر الذي يمكن معه وصف هذه الجولة، غير المقدر لها أن تُخرج الأرنب من قبعة الراعي الأميركي في غضون تسعة أشهر، على أنها مفاوضات بالجبر والإكراه.
على أي حال، فعلها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري أخيراً، بعد أن بذل جهداً شخصياً دؤوباً استغرق نحو سبع جولات متواصلة، كان فيها كمن ينقش في الصخر، وأحياناً كمن يحرث في البحر، وسط أمواج متلاحقة من الاستخفاف به، والهزء من محاولاته اليائسة لإعادة بعث الجمر في الرماد البارد. حتى إن بعض السياسيين والكتاب الإسرائيليين وصفوا وزير باراك أوباما بالسذاجة، وقالوا فيه ما معناه “إن كل طويل لا يخلو من الهبل”، ودعوه إلى الكف عن دس أصابعه في جحر الأفعى السامة.
ومع أن الجانب الفلسطيني لم يُبد مثل هذا القدر من الاستهانة التي فاض بها الخطاب الإسرائيلي إزاء كيري، إلا أنه بقي يحاذر الوقوع في التفاؤل، ويتجنب الخوض في مآلات مثل هذه المساعي الأميركية المجربة من قبل، تاركاً للوزير الذي خلف هيلاري كلينتون، تجريب حظه، وقلع أشواكه بيده، خصوصاً أن الحالة الفلسطينية لا تنطوي على كثير من الخيارات المريحة، إن لم نقل إنها تقف على حافة هاوية تزداد عمقاً مع مرور الوقت، جراء انسداد الدروب، وقلة البدائل، وتواضع القدرات، وانعدام اليقين.
أحسب أن القرار الفلسطيني بالاستجابة للمسعى الأميركي المحفوف بالشكوك العميقة، ومسايرة كيري لغير وجه واحد أحد، كان ينطوي على وعي مسبق بأن الذهاب إلى واشنطن على هذا النحو من الفرض والإملاء، سوف يثير على أصحابه حملة عاتية من الاستنكار الشعبي، والرفض العدمي المعهود، والاتهامات من كل فجّ فلسطيني عميق. ومع ذلك، جاء هذا الموقف المسؤول على قاعدة أنه لا ينبغي إضاعة الفرصة مهما كانت ضئيلة، وتجنب تحميل الولايات المتحدة للضحية وزر إجهاض الجهود الأميركية.
ذلك أن رفض استئناف المفاوضات حتى يتوقف الاستيطان، لم ينجح أبدا في الحد من التغول الإسرائيلي على الأرض، ولا في كبح جماح هذا السباق المحموم على تهويد القدس. وبالتالي، فإن مثل هذا الرفض لا يزعج إسرائيل ولا يقلل من شهيتها الاستيطانية التي لم تشبع على مدى أكثر من أربعين سنة ماضية، تخللتها جولات تفاوضية، وتوقفات احتجاجية، ومبادرات أميركية فاشلة على رؤوس الأشهاد في إلزام دولة الاحتلال بهذا الشرط، وهو ما يطرح السؤال الأبدي: ما العمل إذن؟
هكذا، تبدو العودة إلى المفاوضات عودة إجبارية ثقيلة على النفوس الملتاعة من كثرة الفشل وخيبات الأمل. ومع ذلك، فإنها تعد بفرص ضئيلة، قد يتحقق القليل منها بالقطارة. الأمر الذي من شأنه أن يوفر إمكانية موضوعية لتمكين الشعب الفلسطيني في أرضه بصورة أفضل، وإمساكه بقسط من مقدراته الذاتية شيئاً فشيئاً، وتحسين ظروفه الحياتية وبنيته التحتية، ورفع سوية أدائه الكفاحي أكثر فأكثر، وتجنب ظهوره بمظهر الرافض للجهود الأميركية. وذلك كله بدون التفريط، في حالة الفشل المتوقع، بأي من الثوابت الوطنية، حتى لا نقول تحقيق مكاسب جزئية مهمة، مثل الإفراج عن أكثر من مائة أسير طال بهم المقام في المعتقلات الإسرائيلية.