عندما ارتجل خطاباً لم يكن مقرراً من قبل، في حفل تخريج دفعة من طلاب الكلية البحرية في الاسكندرية، دعا فيه المصريين للخروج الى الشارع لمنحه تفويضاً لمحاربة العنف والإرهاب، كان الفريق أول عبدالفتاح السيسي يأخذ على عاتقه الشخصي مجازفتين كبيرتين، أحسب أنه خاطر بحملهما معاً. الأولى، مجازفته بالرهان على شارع له دينامية ذاتية لا يمكن التحكم بها، يخشاها في الواقع كل ذي سلطة. والثانية، مقامرته بكامل رصيده على استجابة شعبية ينبغي ألا تقل اتساعاً عما شهدته ميادين مصر في 30 يونيو الماضي.كان الوقت قصيراً (48 ساعة) لإعادة إنتاج المشهد مرة أخرى، في ظلال مشهد اشتدت فيه حالة الاستقطاب حول ما إذا كان عزل محمد مرسي من الرئاسة انقلاباً عسكرياً أم ثورة شعبية. إلا أن هاتين المجازفتين اللتين عادتا بأُكلهما سريعاً، طوّبتا، دفعة واحدة، الجنرال القادم من جهاز المخابرات الحربية، زعيماً مصرياً جديداً، الأمر الذي أغوى كثيرين بعقد مقارنة ذات هوى داخلي، أو قل ناصري، بينه وبين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.والحق أن هذه المقارنة لم تكن من صنع خيالات كتّاب يتكئون على غواية التاريخ، وتستهويهم تكراراته النادرة؛ وإنما كانت في واقع الأمر من إنتاج “جمهورية” ميدان التحرير ذات الكلمة المقررة في وجهة سير موجات الثورة المصرية المتلاحقة، حيث رفع عشرات الألوف، في الميدان الشهير وخارجه، صوراً تجمع بين عبدالناصر والسيسي، في إشارة لا لبس فيها على أن المستجيبين لنداء التفويض يرون في رجل مصر القوي شبهاً قوياً بقائد مجلس ثورة الضباط الأحرار العام 1952.غير أن ما لا يمكن فهمه حتى الآن، هو كيف تمكن السيسي من احتلال هذه المكانة العزيزة في قلوب المصريين ووجدانهم، خلال أيام قليلة، بدون إنجازات تتعدى عزل محمد مرسي، فيما احتاج عبدالناصر سنوات طويلة كي يحفر له تلك المنزلة التاريخية الباذخة، بعد أن قلب فيها مصر إلى جمهورية، وأزاح الرئيس محمد نجيب، وأصدر قانون الإصلاح الزراعي، وأمم قناة السويس، وصمد ببسالة في وجه العدوان الثلاثي، وشرع في بناء السد العالي، حتى بات زعيماً مهاباً، وبطلاً قومياً تهتف باسمه ملايين العرب المأخوذون بسحر خطاباته النارية.إذ يبدو أن الحنين الجارف إلى زمن العزة والكرامة التي كان يختصرها جمال عبدالناصر بمقولته الشهيرة: “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الذل والاستبداد”، هو الذي جعل المصريين ينزلون وزير دفاعهم هذه المنزلة السامقة في سجل القادة التاريخيين الكبار، ودفع بهم إلى إلباسه عباءة وطنية تليق فقط بالخالدين في الذاكرة الوطنية والضمير الجمعي. فليس أكثر من الشعور بالكرامة التي افتقر إليها المصريون والعرب طويلاً، دافعاً للاستجابة لنداء الرجولة الحبيس في الصدور، ربما منذ زمن صلاح الدين.في الحوارات التلفزيونية العديدة ليلة امتلاء الشوارع المصرية بعشرات ملايين المتظاهرين، استمعت إلى كثير من المثقفين والإعلاميين الذين توزعوا على مختلف القنوات الفضائية الخاصة، يتحدثون عن صور كل من عبدالناصر والسيسي المرفوعة فوق الأعناق، بإعجاب لا يخلو من الدهشة والبهجة بهذه المفاجأة التي أعاد إنتاجها خيال شعبي مترع بالشوق إلى عهد مضى ولم يمضِ تماماً، كانت فيه مصر بحق قبلة سياسية كبرى، وقلب عروبة نابضا، ومصدر إشعاع يفيض على جواره، وصاحبة دور إقليمي لا يجارى.يبقى أنّ زمن الحرب الباردة الذي أتى على جناحه عبدالناصر، ليس زمن العولمة الذي يواكب السيسي؛ وأن الصورة التي تحاكي الأصل ليست هي الأصل بالضرورة الموضوعية. كما أن التاريخ بمكره البالغ لا يكرر نفسه بصورة تلقائية؛ الأمر الذي سيجعل الجنرال أقل كارزمية من “البكباشي”، لكنه أكثر من سابقه ديمقراطية، وبالمقابل ألا تكون ذاكرة هذا “المنوفي” مسكونة بما كانت عليه ذاكرة سلفه “الصعيدي” في حصار الفلوجة، بل وقد لا يتطلع الرجل الذي التقط لحظته التاريخية ببراعة، إلى ما تطلع إليه الرجل الذي غنّى له عبدالحليم حافظ ذات زمن جميل “يا جمال يا حبيب الملايين”.issa.alshuibi@alghad.jo