د.عبد الرزاق باحجاج/في ذكرى نهضة.. قائد وشعب ،، قراءة في أهم التحديات ،،

من منا رجع بذاكرته أمس إلى يوم الثالث والعشرين من يوليو عام 1970؟ وهو يوم كما هو معلوم، انطلاقة نهضتنا المباركة، ولماذا أمس؟ لأنه كان يوم ذكرى النهضة العمانية، وكنا نتمنى أن نطرح التساؤل الأول على كل المواطنين، مهما كانت مواقعهم وتموقعاتهم، ومهما كان مسقط رأسهم، حتى نتعرف على العدد ومستوياته، فهل هناك فعلا من استرجع الذاكرة بذلك اليوم الخالد أم أن انشغالاتنا باللحظة الآنية الضاغطة، وواقعنا المعاصر وتحدياته الجديدة، قد سلبت منا ميزة الاستدراك العقلي، واعتلت فينا قيمة الإحساس بالماضي وبدوره في واقعنا المعاصر؟ وكيف يمكن الاستفادة منه مستقبلا؟ وهناك مجموعة تساؤلات استراتيجية نقترح طرحها للتفكير فيها على المستوى الفردي أي المواطنين، وبالذات رجال أعمالنا وأغنيائنا، وكذلك على المستوى الجماعي أي الحكومة، وبالذات المنظرين والمؤطرين وهي، كيف كلنا في يوم الثالث والعشرين من يوليو عام 1970؟ وكيف أصبحنا اليوم؟ وكيف نسير نحو المستقبل؟
وينبغي أن نخضع التفكير في إطار تجربة بلادنا الناجحة في قهر التخلف الشامل، وتأسيس دولة متسامحة مع ذاتها ومع الخارج؟ ومن خلال فلسفة التسامح، تمكنا من حفر الأمن والاستقرار على جبال صماء، والتساؤل ألأهم الذي نعتقد أنه جدير بالطرح في هذه الوقفة الاسترجاعية، وكلنا نتمنى لو أطلقنا عليها بالتقويمية والتقيمية، هو، كيف تمكنت السلطة السياسية من السيطرة على المجتمع؟ وقبل ذلك علينا توضيح سبب تخصيصنا ذلك الجمهور المستهدف بتلك التساؤلات؟ السبب، هو أن الحكومة ورجال الأعمال واغنياءنا هم الفاعلون والمؤثرون المحليون الوحيدون في مشهدنا الاجتماعي والاقتصادي، فما يحدث داخل هذا المشهد من تفاعلات سلبية وايجابية أو من متغيرات سيكون من نتاج سياستهم واستراتيجياتهم ونشاطهم داخل هذا المشهد، رغم أن تساؤلاتنا معني بها الكل بما فيها المواطنون عامة، فالتفكير الاسترجاعي وربطه بالاستشراف المستقبلي ينجم عنه كذلك تقدير قيمة الكثير من النعم التي يجب أن نعض عليها بالأنامل، ولا نسمح لأنفسنا بالمساس بها مهما كانت الأسباب، وهذا وعي نحمل همه كثيرا في هذا المقال، وفي هذا الإطار المستهدف العام، نقترح كذلك التفكير في المقومات التي تمكن مجتمعنا بشرائحه المختلفة، الغنية والمتوسطة والفقيرة، من الحفاظ على ضرورياته الخمس التي جاءت بها كل الشرائع السماوية دون استثناء، وهي على التوالي من حيث الأهمية، الدين، والنفس، والعقل والنسل والعرض والمال، هل تأملنا في متعة واستمتعنا بها في بلادنا مقارنة فقدها في كثير من دولنا العربية؟ تأملوا معي، مشهد يكاد يكون يوميا في بعض العواصم العربية، وهو، إباحة دماء المواطنين الأبرياء داخل المساجد وفي الأسواق .. بعد أن دخلت مجتمعاتها في الفوضى الشاملة؟ والسبب؟ أطماع السياسيين في السلطة، وجشع الأغنياء في المال والنفوذ، وانعدام العدالة الاجتماعية، ومؤامرات الأعداء التي تمكنت من قلب أوضاع عربية وإسلامية عاليها سالفها، هل من يتدبر ويتعقل فيما يجري في الخارج؟ ويفكر في تحصين ذاتنا من شطحات أنفسنا ومن يتربص بنا من الخارج؟ فلا يمكن لهذا الأخير أن ينجح الا إذا وجد ثغرات كبيرة ينفذ منها، وما ذكرناه سابقا، قد شكلت تلك الثغرات سببا مباشرا في قلب الأوضاع العربية، فكيف إذن أن نحافظ على منجزنا الدولة الوطنية الحديثة الذي من خلاله يسبح الكل في فضاءات الأمن والاطمئنان على مدار الساعة ـ ولله الحمد والشكر – ؟ الذكرى الجديدة لنهضة، قائد وشعب، تحتم علينا أن نكون مختلفين شكلا ومضمونا عن كل من تعاطى أمس مع هذه المناسبة العظيمة، وكذلك عن تعاطينا طوال المناسبات الماضية، لأننا نرى أن المصلحة لم تعد تحتم التغني بالمنجز المتحقق، أو التوقف عنده لمجرد التذكير به فقط، وإنما البحث عن ما سوف يواجهه أي المنجز من تحديات وإكراهات داخلية وخارجية، من هنا، علينا بداية أن نحدد طبيعة أهم الاكراهات التي ستواجهنا عاجلا أم آجلا؟ وبعد تحديدها وقراءاتها – سنتجاوز ذكرها لأسباب عديدة، وقد تفهم من خلال السياقات – يمكن القول إن الحاجة تحتم سريعا تبني سياسة تجديدية لتأهيل الحقل الديني، فهو بحاجة الى إعادة الهيكلة وذلك حفاظا على الوجه التسامحي للإسلام القائم على المبادئ التالية: الاعتدال، التسامح، الإخاء، التضامن، والتكافل، وقد برزت ظواهر ومؤشرات تدعو إلى ذلك، وتحمل في مضامينها أهم الاكراهات التي سوف تضربنا لاحقا، واللاحق قريب، وهنا نرى أن الحاجة تدعونا بإلحاح إلى نقلة جوهرية في مفهوم الدولة العمانية، من دولة عصرية تم تأسيسها خلال العقود الماضية إلى دولة ذات محتوى شامل للتعدد الفكري الإسلامي؟ فهل يمكن أن نجد ذلك في مفهوم الدولة المدنية بعد توطين المفهوم ووضع أطره وأسسه ليتلاءم مع البيئة والخصوصية العمانية؟ سوف يكون لنا مقال خاص حول هذا الموضوع المهم جدا، فالشيء الأهم الذي نريد قوله هنا هو أن الحقل الديني في أمس الحاجة إلى تقييم وتقويم شفاف وموضوعي حتى نحافظ على المنظومة الفكرية والأيديولوجية المتعددة للدولة العمانية من مبدأ التعايش في ظل تعدد المعتقد لمكون الدولة الاجتماعي، وثاني هذه الاكراهات التي سوف تمس منجز الأمن والاستقرار هي الطبقة الوسطى، وهي صمام أمان لأي نظام سياسي في العالم، ولو درسنا في التاريخ الإنساني العالمي، لو جدنا أن اغلب التحولات التي شهدها العالم ساهمت فيها الطبقة الوسطى بقسط وافر في إحداث تحولات بنيوية داخل مجتمعاتها، ولنا في ما يسمى بأحداث الربيع العربي مثال حي على قيادة الطبقات الوسطى ثورة الشعوب ضد أنظمتها، هذا في المجال السلبي، أما في المجال الايجابي، فلنا في تجربتنا العمانية التي انطلقت في مرحلة السبعينات أفضل الأمثلة على رهان الدولة السياسي على الطبقة الوسطى في إحداث وقبول التحولات التاريخية، فقد تم تشكيلها والاهتمام بها بشكل ملحوظ، إيمانا بكونها تمثل الخزان الاستراتيجي لإنجاح مشروع النهضة التنموي، غير ان الطبقة المتوسطة العمانية قد شهدت مرحلة انحسار وضعف شديدين وملحوظين منذ عام 1996، فبعضها نزل بصورة مكوكية إلى الطبقة الدنيا سواء بسبب الإحالة إلى التقاعد الإجباري أو الاختياري أو بسبب نظام الخصخصة الذي تبنته الحكومة بعد انتقالها إلى الليبرالية، مما نجم عن ذلك، فقدان الطبقة الوسطى العمانية دورها كصمام أمان .. وهذا ما تجلى لنا في أحداث عام 2011، من هنا، فلا بد من إعادة الاعتبار إلى الطبقة الوسطى، لكن كيف؟ أولا عبر جعلها طبقة مفتوحة وغير منغلقة، بحيث تتيح للطبقات التي تلي الطبقة الوسطى، وتحديدا الطبقة الضعيفة الدخل الإمكانية السهلة للانتقال إلى الطبقة الوسطى، والشيء نفسه للطبقة الوسطى باتجاه طبقة الأغنياء … وهذا يتطلب تعديل الكثير من السياسات والاستراتيجيات، لعل أبرزها، تحسين مستوى الدخول مجددا، وتوحيد صناديق التقاعد، وحل إشكاليات اختلالاتها الكبيرة، بما فيها نظام التقاعد في القطاع الخاص .. الخ لأن مثل تلك السياسات تقلص من عدد الطبقة الوسطى وتزيد في المقابل من عدد الطبقة الضعيفة الدخل، وثالث تلك الاكراهات، هي تعاظم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وأصبح للفرد مركز دولي لا يقل شأنا عن مركز الدولة على الصعيد العالمي بعد أن طوت بلادنا صفحة الخوف منذ عام 2011، فيما بدأت ترتسم علاقات جديدة بين السلطة والشباب، لم تأخذ شكلها المتوقع حتى الآن رغم بعض الاجتهادات الايجابية، لكن، من المؤكد أن شكلا ما لهذه العلاقة سوف يفرض مستقبلا خارج سياق الإرادة، إن لم تبادر الإرادة الوطنية للاستجابة التلقائية، وهذا يفرض على بلادنا البحث عن أدوات ووسائل جديدة وتحديث ما هو قائم منها كاللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، وتطبيق المادتين (28، 29) من النظام الاساسي العماني والذي تحدثنا عنهما في مقالات سابقة، والهدف الاستراتيجي من ذلك هو، لكسب المجتمع قبل أن يكسبه الخارج، وهناك مؤشرات على وجود مساع للكسب عبر وسائل الاحتواء والجذب المتعددة.
ومهما حاولنا من تحديث وعصرنة بلادنا، تظل هناك حقيقة ثابتة، ومؤكدة بالتجارب السابقة، وما سوف يواجهنا مستقبلا، وهي، ضرورة الاعتداد بالدور الرعائي للدولة في مجتمع لديه إحساس كبير بدولته العميقة، والدليل ، نتائج تجربتين عرفتهما البلاد حتى الآن، الاولى تجربة الدولة المتدخلة التي استمرت من 1970-1995، والثانية، التجربة الليبرالية التي انطلقت عام 1996 وحتى الآن، فأي من التجربتين قد كسبت المجتمع؟ ونحن هنا لا ندعو لعودة الدور التدخلي للدولة في الاقتصاد، وإنما إلى عدم الرهان على مفهوم الدولة الليبرالية في كسب المجتمع، فهذا لم ولن يحدث في بلادنا، وتبدو هنا من أكبر المفارقات الكبرى إذا اعتقدنا أن الدور الاجتماعي للقطاع المحلي والأجنبي سوف يؤدي إلى كسب المجتمع للدولة، وإنما العكس سوف يفكك ولاءاته وانتماءاته لصالح الخارج أو على الأقل من رأسيا إلى مجموعات أفقية، من هنا، ندعو إلى عودة الاعتداد بدور الدولة الاجتماعي مع تفعيل دورها الرقابي والتشريعي لضبط حركة وتفاعلية الاقتصاد لكي يكون له انعكاسات اجتماعية مباشرة على حياة المواطنين .. وكل عام وبلادنا في أمن وآمان دائمين، وقائد مسيرتنا حفظه الله ورعاه يقودها دائما إلى بر السلام والازدهار .

Related posts

كيف نخفف من خسائر الحرب؟* ماهر أبو طير

كلمة السر «في سرك»!* بشار جرار

كيف نتكيّف سياسياً مع المرحلة “الترامبية”؟* حسين الرواشدة