الحق ـ الحقيقة ـ الخير ـ الصلاح – العدالة .. أين تقف كل تلك المفاهيم والمصطلحات شكلا ومضمونا؟ وأين ومع أي طرف وفي أي قرار أو رأي سيصبح ثمرها طيبا حلوا يعود نفعه وصلاحه وخيره على العباد والبلاد في ساحة هذا المشهد الملبدة غيومه بسحب التخوين والتكفير والتهميش والاقصاء، الملتبسة حاله على كل من يحاول فك طلاسمه وفتح أقفاله وفهم أسبابه والتعرف على دوافعه وأهدافه وتبين مساراته ونهاياته، والمستعصية إجاباته على الأسئلة الكبيرة والواسعة التي تطرح مع كل تطور وتأزم وتفاقم وتحول مأساوي للأحداث والأوضاع العربية التي تنزلق مساراتها إلى المزيد من السقوط والغرق ؟ … في بلداننا المتهالكة والمترنحة وفي عالمنا العربي والإسلامي من يزرع بذور الفتنة ويؤجج المشاعر ويهيئ النفوس ويمهدها لاستقبال وتخزين المزيد من الكراهية والأحقاد وإثارة النعرات، مذهبية ـ حزبية ـ قبلية ـ فئوية ـ فكرية أيديولوجية ـ طائفية ـ مناطقية … استقطاب وتجييش ومواجهات وصراعات، تخطيط ممنهج ترسمه وتضعه قيادات وأطراف الصراع لتأجيج البسطاء وتوظيف الأبرياء واستخدام العامة من الناس وتوجيههم لخدمة توجهات ومصالح وأهداف وغايات القيادات العليا : سياسية ـ دينية، وتعزيز نظريات المؤامرة والاستهداف والإقصاء، استهداف الإسلام والتآمر على الأمة والشعب وإقصاء شركاء العملية السياسية والانقلاب على الشرعية والقانون وتجاهل مصلحة وخير البلاد والعباد، وتظل خصوصية العلاقة مع أميركا وإسرائيل ودعمهما محور التخوين ونقطة الضعف وكل طرف يصم الطرف الآخر بهذا العار، وكل الأطراف والشركاء المتصارعون والمتكالبون بسلوكهم وأعمالهم وتناقضاتهم متآمرون يمارسون كل أشكال الإقصاء والاستهداف والانقلاب ويدوسون على تلك الشعارات والقيم والمثل التي يرفعون شعارها ويتغنون بها ويتكئون عليها في مطالباتهم والتبرير لمواقفهم وأعمالهم وعدائهم للطرف الآخر، نصوص ومضامين ومقاطع ومقالات وشعارات ومواقف قديمة أو حديثة توظف عبر الوسائل التقنية والانترنت والإعلام ومختلف الوسائل والبرامج والأدوات الحديثة لخدمة الأطراف والمؤسسات والأحزاب والتيارات المتصارعة والسعي الحثيث لتفويت الفرص وتوظيف الفرص لتحقيق هدف وتعزيز موقف يضعف الآخر .. وتظل تلك القيادات في قصورها وفي مكاتبها وفي منصات الخطابة بين حماية الأمن والأتباع والمال تتابع وتخطط وتراجع وتنتهز الفرص للانقضاض على السلطة متى ما حانت الفرصة وإن أدى ذلك إلى الانقلاب على الشرعية وعلى صناديق الانتخاب وعلى القيم الديمقراطية التي نرفع شعارها ونقود الثورات تحقيقا لمبادئها وقيمها ونبرر كل سلوك وعمل للحفاظ على ثوابتها، وإن أدى ذلك الانقلاب إلى مخاطر كبيرة ومزالق قد تودي بالوطن إلى الصراعات الداخلية والحروب الأهلية والتدمير الشامل وإلى خسائر في الأرواح والممتلكات … والأبرياء من الناس والبسطاء من أبناء المجتمع هم وقود محقق لتلك الصراعات وضحاياها وهم من يتم التضحية بأحلامهم وتطلعاتهم وغاياتهم في تحقيق العدالة وفي الحياة الكريمة وفي توفير وتحقيق متطلبات أسرهم وفي محاصرة ومكافحة ومحاربة كل أشكال وأوجه وصور الفساد بمجرد ما تتلاقى مصالح تلك القيادات. وفي فصول جديدة ومراحل تاريخية أخرى تستمر وتتكرر أعمال التجييش والانقسام والاستقطاب وأعداء الأمس يصبحون حلفاء اليوم وحلفاء الأمس هم أعداء اليوم وهكذا دواليك في حلقات ومشاهد لا تنتهي، ومع تلك التحالفات والانقسامات التي تتفكك وتلتحم وفقا لمصالح الفرقاء والشركاء والأعداء, يصبح الوطن ومقوماته ومكتسباته والمواطن البريئ المسكين والبسيط هم ضحايا تلك الصراعات والانقسامات والتحالفات معا .. إن الفساد الذي أتى على كل شيء ، ومقدرات وثروات الأوطان ومصادر ومقومات المال العام ومكوناته التي أثرت منها واستولت عليها الفئة القليلة من النافذين والمسئولين والمتزلفين والمنتفعين من أتباع الأنظمة السياسية ورموزها, والاستبداد السياسي وغياب الحريات وتقييد الكلمة المسئولة وضعف التعليم مناهجه ومكوناته ومخرجاته وارتفاع نسب الأمية والجهل والفقر في المجتمعات العربية، وتخلف الخدمات والمؤسسات وضعف أدائها وانتشار المحسوبية والواسطة والعشوائية في التخطيط وفي المعيشة واهتزاز الثقة بين مختلف الأطراف الفاعلة ومكونات المجتمع .. كل ذلك أدى إلى نشوء وتشكل ثقافة اتكالية وشخصية مجتمعية مهزوزة تتسم بالخنوع والتبعية وتصديق كل ما يطرح ويقدم ويقال ويشاع والجري خلف الشعارات والنصوص والإيمان بها وتقديسها، منساقة خلف نظريات المؤامرة دون بحث وتحليل أو إعمال للعقل وتفكير وتدليل وحجة ومقارنة وإسقاط مع الافتقار التام إلى أصالة الرأي وتكوينه وبما يعبر عن الاستقلالية .. وهو ما أدى إلى هذا الانقسام وهذه التبعية لهذا الطرف أو ذاك جريا وراء منفعة أو طمعا في مصلحة أووعود زائفة وهدف زهيد أو مجاملة وتقية .. على أرض سوريا عاصمة الأمويين وحاضرة ملكهم تدور رحى حرب أهلية إقليمية دولية، سنية شيعية، إسلامية ليبرالية .. دمرت هذا البلد الحضاري العريق رمز العروبة وحصن مقاومتها الحصين، دكت المعالم الحضارية وأتت الأسلحة الثقيلة والآليات المسلحة على المآذن والمساجد والآثار التي كانت تعبر وتؤرخ لحضارات وثقافات ودول وإمارات متعاقبة في دمشق وحلب وحمص وغيرها من المدن السورية ذات الإرث التاريخي الغني بالجمال والابداع والاتقان والانجاز، ومثلما تم تدمير عاصمة الحضارة العباسية قبل ذلك والتي تشهد حربا مذهبية وطائفية وسياسية لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث يأتي الدور تباعا على العواصم والبلدان العربية الواحدة تلو الأخرى، وكلما سنحت الفرصة لزيارة بلد إقليمي أو عالمي نجد المواطن السوري والعراقي يعيش في حالة مزرية من الفقر والبؤس والحزن على فقد الأحبة والوطن والعزة والكرامة، ومن مكان إلى آخر ومن موت محقق إلى مذلة السؤال والفاقة والبحث عن عمل يسد الرمق ويحفظ بعضا من الكرامة ينتقل المواطن العربي باحثا عن اللجوء وعن الطمأنينة والاستقرار هاربا من نار الأحقاد والكراهية والتكفير وموت يلاحقه وأسرته عبر شاحنة مفخخة أو حزام انتحاري أو على يد مجموعة مسلحة أو طلقات نارية وقنابل طائشة، فالحرب لا تفرق بين عدو وصديق، صالح وشرير، مجرم وبريء، معتزل للحرب أو مشارك فيها بقوة، إن ما يحدث في هذان البلدان من مجازر وتصفيات وتدمير وترويع وتزييف للحقائق وتحريض على الفتنة وتأجيج للمشاعر وتسميم الأجواء أحقادا وكراهية لما يستعصي على الفهم والادراك والوصف لأنه يتجاوز كل أشكال وصور المنطق والعقل والمقبول من الأمور، وما تبقى من الحكومات والأنظمة العربية ورجال الدين ومؤسساته والساسة وبدلا من أن يتفقوا ويتعاونوا على البر والتقوى في إصلاح ذات البين وتهدئة الأوضاع وإطلاق الحوار بين الأطراف المتصارعة والمتنازعة وتهيئة الأجواء وتنقيتها وتمهيدها لهذا الحوار وهذا الإصلاح والعمل على التقريب بين مختلف الأطراف والقيام بالمساعي الحميدة لتحقيق الأهداف والغايات المعززة والمحققة لوحدة الأمة العربية ورفعة راية وشأن الإسلام وحمل رسالته السمحة والدفاع عنه، نجدهم وقد انقسموا بين مؤيد لهذا الطرف أو ذاك ومحرض وداعم بالقول والمال وتسخير الإعلام لتحقيق مآرب ومصالح وأهداف ذات علاقة بسياسات وانتماءات ترتبط بالنظام السياسي ذاته، فصبوا على النار كميات جديدة من البنزين لتتسع رقعة الاشتعال ويتواصل الحريق الذي يستمد طاقته وقوته من ذلك الدعم المتواصل ليلتهم مواقع ومناطق وأناسا أبرياء لم يصلهم من قبل، هذا هو حال أمتنا للأسف الشديد .. اليمن وليبيا والسودان على شفا إن لم تتدارك شعوبها والفرقاء والساسة فيها الموقف وأن يأخذوا العبرة والدرس مما يحدث في الدول العربية الأخرى فالطابع المسلح وانتشار السلاح واتساع ثقافته وعمليات الاغتيال والتخوين ومواصلة التظاهر والاحتجاج وغياب الأمن والاستقرار السياسي مما تتسم به الأوضاع في هذه البلدان، كنا ندلل بالصومال ونقدمها مثالا على قتامة وكارثية الصراعات المسلحة ونتائج ومآسي الحروب الأهلية، وكنا نحذر من انتقال الأوضاع إلى مناطق ومواقع أخرى، ومن بلد عربي إلى آخر ومع تصاعد الأحداث وتطورات الموقف من كان ليتوقع أن يصبح المشهد العربي كما نراه ماثلا الآن وقد تجاوزت مآسي بعض البلدان العربية ما حدث ويحدث في الصومال .. قلب العروبة ومركزها الإقليمي، وبعد استقرار مطمئن بعض الشيء وإن اتسم بالضعف والهشاشة إلا أن ممارسة العملية الانتخابية وفوز الرئيس محمد مرسي برئاسة الجمهورية العربية المصرية كان كفيلا لو أتيحت له الفرصة على إرساء قيم الديمقراطية وعلى تقدم العملية السياسية واستقرار الأوضاع تدريجيا والعمل على معالجة التأزمات والمشاكل والأخطاء التي تطرحها أحزاب المعارضة وفق آليات ووسائل تقي البلاد شر الفتنة والانقسام والانجرار إلى مأزق الصراع الذي قد يتحول إلى طابع مسلح وإدخال القطر المصري إلى شراك الحرب الأهلية على غرار ما يحدث في سوريا والعراق، وذلك كبديل لخيار العزل القسري للرئيس وتدخل الجيش واللجوء إلى اقتياد وسجن قيادات الاخوان وتقييد حرية الرئيس السابق محمد مرسي والذي أحدث انشقاقا وفتنة في الشارع المصري حيث انقسمت الميادين والشوارع إلى مؤيدي ومعارضي الرئيس السابق وكل يجيش أتباعه وأنصاره لتحقيق الغلبة واستقطاب أكبر عدد من الأنصار والمؤيدين، فمن الذي انقلب على الشرعية الجيش أم المواطن المصري؟ وهل أدى أو سيؤدي هذا الانقلاب إلى مصلحة مصر ؟ وهل سيحفظ هذا الانقلاب وحدة البلاد قلب العروبة ومركزها وسيجنبها الانزلاق إلى صراع مسلح كما يحدث في سوريا والعراق؟ ألا تكفي الأحداث وتطورات الأوضاع ومسيرتها في عدد من الدول العربية ومصر نفسها لتجنب هذا المأزق الخطير والوقاية من هذا الانقسام الحاد؟ ألم يفقد المصريون عشرات القتلى ومئات الجرحى منذ الاعلان عن الانقلاب على الرئيس المخلوع محمد مرسي؟ ألم تكن الفرصة مواتية لأن تقوم المعارضة بدور المتابع والمقيم والناقد والمصلح والمصحح للأخطاء، وأن تمضي قدما في التظاهر والاحتجاج على أخطاء واخفاقات الرئيس التي تعبر عن وجهات نظرها وتقييمها لتطور الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والوقوف أمام أي محاولات لإقصاء الأطراف والشركاء الآخرين في العملية السياسية والمضي قدما بالوسائل والطرق الديمقراطية لتصحيح الأوضاع وتحقيق أهداف الثورة إلى حين موعد الانتخابات الرئاسية القادمة؟ ألا يعني عزل مرسي إعادة الأوضاع في مصر إلى نقطة الصفر وإدخال البلاد في أتون صراعات لا يمكن التنبؤ بنهاياتها ونتائجها ؟ وهو ما يحدث فعلا على أرض الواقع وفقا لما تنقله وتبثه شاشات التلفزة ووسائل الإعلام.
نفتخر بتاريخنا العربي ونتغنى بقيم الإسلام ورسالته العظيمة وننادي ونطالب ونسعى للحوار مع الحضارات الأخرى ومع أمم وشعوب العالم استجابة وتنفيذا لتلك القيم والمضامين، نتحدث طويلا عن سماحة المسلمين ومناقب وخصال وعظمة وسيرة الصحابة والخلفاء والأئمة والعلماء ونقدم الأمثلة والمشاهد والصور الجميلة المؤكدة على تلك السيرة النقية، وعلى نهضة المسلمين وعلومهم وانجازاتهم العظيمة التي حملت مفتاح النهضة الحديثة إلى أوروبا والغرب، ولولا سماحة الإسلام وعدالته ورحمته وإنسانيته، ومايتضمنه من حقوق وقيم وحريات وخيارات ما دخل إليه الناس أفواجا استجابة للنداء ورغبة في الإسلام وترحيباً بدعوته، ولما استقبلت الجيوش الإسلامية من الأمم والشعوب الأخرى بالفرح والسعادة لدرجة ان مدنا وعواصم تفتح ابوابها دون أن تراق قطرة دم أو يرفع سيف في وجهها، قدم التاريخ الاسلامي إلى الأجيال وإلى العالم نقيا ناصع البياض لا تشوبه الشوائب، حذفت من صفحاته تلك الصراعات والحروب والخلافات والانقسامات والتصفيات التي دارت بين الصحابة والخلفاء والتابعين والمسلمين في فترات متعاقبة على السلطة والحكم وجدلياتهما والتي أدت إلى انقسام الأمة إلى مذاهب وعقائد تكفر وتقصي وتدين بعضها البعض، وظل سلوك العرب وعملهم وممارساتهم على أرض الواقع مخالفا منافيا رافضا مناقضا لتلك الشعارات والأقوال والمثل، حيث أبى العرب إلا الانحياز إلى ذلك الجزء المظلم من تاريخهم المغيب بإرادتهم عن المناهج وكتب التراث، المبعد عن تلك الشعارات والقيم والمبادئ التي يفخرون بها في خطبهم وأحاديثهم, واستعداء التاريخ المشرف والصور المعبرة عن الرقي والتحضر والمثل الإنسانية الكبيرة التي يعلنون عنها ويدعون اتباع نهجها ويتشرفون بانتمائهم إليها .. فعلى أرض الواقع وكما هو الحال في الماضي ووفقا للمشهد العربي المعاش فإن العمل السياسي والانقضاض على الحكم متى ما توفرت الفرصة وسفك الدماء وإنهاء الخلافات بقوة السلاح وبث الفتن والتجييش والتخوين والتكفير هي ما يميز المشهد العربي العام متجها إلى المزيد من التأزم والانزلاق والتشرذم والتفكك وإلى نشوء صراعات جديدة وحروب أخرى دون أن تلوح في الأفق بوادر انفراج واضحة … فهل سيواصل العرب سفك دماء إخوانهم وأبناء جلدتهم وتدمير بلدانهم وتفكيك دويلاتهم وإضعاف عقيدتهم إلى أن يملوا ويقتنعوا بفداحة الخسارة وسوء المنقلب والنتائج الكارثية على الأوطان ومجتمعاتها؟ وهل سيحدث ذلك بعد فوات الأوان؟.
سعود بن علي الحارثي
كاتب عماني
Saud2002h@hotmail.com