بداية، فإن الغبش في العنوان اعلاه، هو اختلاط الهزيع الاخير من الليل مع اول بياض الفجر، حيث يمكن لك ان ترى الشيء دون ان تقدر على تشخيصه بدقة. أما مصطلح الاعلام المصري فنعني به الاعلام الخاص، وليس تلك الامبراطورية الاعلامية الرسمية الهائلة، التي فقدت جاذبيتها القديمة وخرجت من المنافسة، وذلك بعد ان خسرت معركتها مع عدد من القنوات الفضائية الجديدة، التي تكاثرت في زمن ما بعد ثورة 25 يناير، وجعلت من شاشة التلفزيون الملاذ الافضل لقضاء السهرة المنزلية.
صحيح ان هناك عدداً من الصحف المصرية الخاصة المقروءة على نطاق واسع، لعبت دوراً حيوياً لافتاً خلال الثلاثين شهراً الماضية من عمر الثورة المصرية، الا ان القنوات الفضائية المستقلة هي التي تسيدت المشهد الاعلامي، واستقطبت عشرات الملايين من داخل مصر وخارجها، لا سيما إبّان الانعطافات السياسية المصاحبة للفترة الانتقالية التي سقط فيها تباعاً ثلاثة رؤساء جمهورية، مبارك وطنطاوي ومحمد مرسي، بقوة دفع متجددة، اسهمت فيها هذه القنوات، التي كانت بمثابة رأس الحربة ،ان لم نقل كتيبة مقاتلة تتقدم الصفوف.
ومع ان لكل واحدة من ثورات الربيع العربي وبلدانها عدداً لا يحصى من الفضاءيات، التي لا تحظى بالمشاهدة خارج ديارها، غير ان القنوات المصرية كانت هي الافضل اداءً، والاشد قدرة على مخاطبة المتلقين، بفضل ما انتزعته من مساحات حرية تعبير شاسعة، وما صنعته لنفسها من سقوف عالية، ناهيك عن تميز كل واحدة منها بمذيع ذرب اللسان، قوي البيان، وذي حضور لا يشق له غبار، الامر الذي استقطب المعلنين والسياسيين والمتابعين والمواطنين، ووفر لها استقلالاً مالياً تغبط عليه.
غير ان هذه الصورة الطيبة للاعلام المصري، وكل تلك الانطباعات الحسنة عنه، اخذت في التراجع مؤخراً، وراحت تخصم من رصيدها الكبير لدى المخاطبين برسالتها التحريضية ضد الفساد والاحادية والاستبداد، وذلك عندما بالغت هذه القنوات في تظهير صورة الخصوم كأبالسة ورعاع، وطفقت في استعداء المصريين ضد العرب المقيمين في ارض الكنانة، خصوصاً من الفلسطينيين والسوريين، الذين تم وصفهم في بعض تلك القنوات على انهم اعداء الثورة، ومتآمرون مع جماعة الاخوان، بل وكارهون لمصر.
لقد كانت رسائل الكراهية المقيتة، التي بثها هذا الاعلام المهيمن بقوة على عملية تشكيل الرأي العام، صادمة لكثير من اوساط النخب الفكرية والسياسية والمنظمات الحقوقية، التي بادرت الى ازاحة الغبش عن عيون هذا الاعلام. كما كانت هذه الرسائل صادمة على نحو اعمق لمشاهدي تلك القنوات، لا سيما من الفلسطينيين المروعين بهذا الخلط المتعسف بينهم وبين حماس، وكذلك من السوريين المذهولين من تعميم سلوك واحد منهم، او اكثر، على عموم الفارين بجلودهم من بطش نظام دموي الى فضاء ام الدنيا، ذات الحضن التاريخي الدافئ لكل طالب حرية منذ زمن الزعيم جمال عبد الناصر.
وبالفعل فقد اسهمت ردود الفعل الايجابية من الداخل الوطني المصري العروبي الديمقراطي المثقف، في تصحيح خطاب هذه المحطات بشكل عام، كما نجحت الحملات الاعلامية والمبادرات التوضيحية التي قام بها كتّاب ومثقفون ونشطاء سياسيون، من فلسطينيين وسوريين، في لجم تلك الاندفاعية الرعناء، ومن ثم حمل بعض نجوم التحريض والمتأبطين شراعلى تقديم الاعتذار علناً على الهواء، وهو ما ادى الى اعادة الامور الى نصابها الحقيقي، الا من بعض الاستثناءات.
لقد شهد الاعلام المصري في عصر ما قبل الفضاءيات، موجة كراهية مشابهة، وحالة إثارة مصطنعة ضد العرب كافة، اشدها كانت في مرحلة ما بعد كامب ديفيد، حيث كان من ابرز ابطالها ابراهيم نافع في رئاسة “الاهرام” وابراهيم سعدة في رئاسة “الاخبار” وهما الصحفيان اللذان خاضا معركة استعداء ازاء كل ما هو عربي، وحاولا مع غيرهما بعث الروح الفرعونية كمصل مضاد للقومية العربية، الا انهما سريعاً ما انكشف امرهما كسماسرة اموال اكثر من كونهما كتّاباً، ثم وقفا بعد ذلك امام المحكمة بتهمة الاستيلاء على المال العام.