انتهت زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت والجوانب التي نجحت فيها الزيارة، تمثلت في تأكيد التسهيلات اللبنانية بالنسبة لفلسطينيي سوريا من حيث توفير الموافقة المتعلقة بالإقامة لنحو ستين ألف لاجئ فلسطيني سوري دخلوا لبنان بصفة مؤقتة إلى حين انتفاء الأسباب الأمنية التي أدت لخروجهم المؤقت من سوريا.
كما نجحت الزيارة في توطيد وتأكيد الموقف الفلسطيني الداعي لتجنيب الفلسطينيين في لبنان مزالق طفرات التدهور في الوضع الداخلي اللبناني على مستوياته السياسية والأمنية، والتي كان آخرها ما وقع في مدينة صيدا، وما جرى خلالها من محاولات حثيثة من قبل بعض الأطراف اللبنانية وقد تم توثيقها، وكانت تهدف بالأصل لجر الفلسطينيين وتحديدًا أبناء مخيمي (عين الحلوة) و(المية مية) في منطقة صيدا للدخول في مستنقع حالة الفلتان الأمني والعسكري في مدينة صيدا وجوارها والالتحام بظاهرة المدعو أحمد الأسير. كما نجحت الزيارة في تأكيد موقف الإجماع الوطني الفلسطيني الذي يقول بحيادية الفلسطينيين تجاه كل القضايا الداخلية اللبنانية واحترامهم حرمة القانون.
لكن الذي لم تحسمه أو لم تستطع زيارة الرئيس محمود عباس إلى لبنان الدخول في نقاشه أو في بابه المفتوح، فهو كل ما يتعلق بفلسطينيي لبنان من زاوية الوضع الإنساني الصعب الذي ما زال يكابده هذا الجزء العزيز من أبناء فلسطين بفعل الإجراءات والتشريعات اللبنانية المجحفة والمتقادمة أصلًا منذ العام 1948 تجاه هذا التجمع الفلسطيني الذي وإن طالت إقامته فوق الأرض اللبنانية فهي إقامة مؤقتة بكل الأحوال، كما هو واقع فلسطينيي سوريا الذين يحملون حتى الآن هوية معنونة تحت عبارة (هوية مؤقتة للاجئين الفلسطينيين العرب المقيمين في سوريا، وبالمناسبة هي هوية لا تختلف حتى في شكلها عن هوية المواطن السوري سوى بوجود العبارة المشار إليها) ويحتفظون بجنسيتهم الفلسطينية، لكنهم في الوقت نفسه يتمتعون من حيث الواقع العملي بكل حقوق المواطنة تقريبًا أسوة بإخوتهم من المواطنين السوريين من حيث الالتزامات والواجبات والحقوق المدنية كاملة بما فيها حق التملك والعمل الخاص والعمل العام في مختلف مؤسسات ووزارات الدولة السورية.
إن حال فلسطينيي لبنان يرثى لها، فلا صوت في لبنان يعلو فوق أصوات المزايدات التي تطلق حين انبعاث أي صوت لبناني على مستوى الحكومة أو أي من الأحزاب اللبنانية يطالب بإنصاف هذا التجمع الفلسطيني وإعادة النظر بسلسلة الإجراءات والقوانين المجحفة بحق فلسطينيي لبنان، خصوصًا بالنسبة للعمل والسكن والتملك. فأصوات المزايدات تنطلق في معزوفة استخدامية عنوانها (بعبع التوطين) والحفاظ على حقوق الفلسطينيين، وتحت مفردات تلك المعزوفة وقعت حالات الهجرة الواسعة لفلسطينيي لبنان نحو أصقاع المعمورة الأربعة، فهناك نحو (400) ألف فلسطيني لبناني لم يعد لهم من مكان ولا حتى قيود رسمية في لبنان بعد هجرتهم الطويلة التي تسلسلت بعد العام 1982، ولم يعد في لبنان حاليًّا أكثر من (220) ألف فلسطيني، كان من المفترض أن تكون أعدادهم قد قاربت نحو (700) ألف مواطن طبقًا لحسابات النمو السكاني، حيث دخل إلى لبنان عام النكبة نحو (120) ألف فلسطيني جرى بين عامي (1949 ـ 1950) تجنيس نحو (30) ألفا منهم، كانت غالبيتهم من مسيحيي فلسطين وتحديدًا من قرى الجليل الأعلى والغربي شمال فلسطين (البصة، الكابري، البعنة، أقرت، كفر برعم، عيلبون، ترشيحا،…) ومدن طبريا وعكا وصفد وحيفا ويافا.
إن أصحاب معزوفة بعبع التوطين يريدون أن تبقى حال فلسطينيي لبنان على ما هي عليه: تجمعات ومخيمات بائسة يفترشها الحرمان، مع النظر إليها باعتبارها جزرًا أمنية عصية على الدولة، بالرغم من دعوة منظمة التحرير المتكررة للجهات اللبنانية لفرض السيطرة الأمنية على كامل التجمعات والمخيمات الفلسطينية أسوة بكل المناطق اللبنانية، مع تقديم الخدمات العامة للناس خصوصًا منها خدمات البنية التحتية التي تتحمل وكالة الأونروا ثقلها الرئيسي.
من هنا، إن تلك السياسات بحرمان الفلسطينيين في لبنان من حقوقهم الآدمية، والإصرار على بقائهم داخل مخيمات وتجمعات شبه محاصرة، هي أشبه بالغيتوات، وإطلاق فزاعات التوطين، أدت لهجرات متتالية يتوقع لها خلال عقد من الزمن أن تنهي وجود فلسطينيي لبنان فوق الأرض اللبنانية، وتلك جريمة ما بعدها جريمة بغض النظر عن نوايا أصحاب ورافعي شعارات وفزاعات ديماغوجيا التوطين.
إن سمعة لبنان الحضاري تُخدش مع بقاء فلسطينيي لبنان وبعد كل هذه العقود المتتالية من عمر النكبة على ما هم عليه، حيث الفاقة والحرمان، والإجراءات المجحفة، ولا يحارب التوطين بالإصرار على إبقاء حال الفلسطينيين على ما هي عليه. إن صراخ فلسطينيي لبنان في الهواء يجب أن يلقى صداه عند كل من تعز عليه إنسانية الإنسان، والدفاع عن حق العودة وعن قضية فلسطين.
وعليه، هل لامست زيارة الرئيس محمود عباس إلى لبنان صميم القضايا المتعلقة بفلسطينيي لبنان، أم هذا الملف أعَقَد من أن يُناقش، وأن الرئيس عباس يدرك بقرارة نفسه بأن هذا الموضوع موضع إشكالي لبناني داخلي على درجة كبيرة، وقد يكون أكبر من موضوع لبناني…؟
إن كل ما أنتجته الزيارة على هذا الصعيد كان في التأكيد على تفعيل عمل لجنة الحوار المشترك الفلسطينية اللبنانية، وهي لجنة لا قرار لديها، فهي لجنة حوار تنسيق لا أكثر لا أقل.
بينما تشير المعلومات إلى أن صميم المواضيع المتعلقة بفلسطينيي لبنان لم تأخذ حيزها المطلوب في النقاش والبحث، بل تمت ملامستها ملامسة فقط، وكان الحديث بشأنها بلغة هي أقرب إلى لغة المجاملات، فالرئيس عباس يدرك بأن هذه المواضيع تمس حالة لبنانية عامة متداخلة تستقبل الإضطرابات بيسر وسهولة وترحاب، وتُطرب أطرافها العديدة بإثارة الفزاعات.
علي بدوان
كاتب فلسطيني سوري ـ دمشق