إن تطورات المشهد في مصر تجعلنا اليوم نضع أيدينا على قلوبنا خوفًا على أُمِّ الدنيا، ويزداد قلقنا ويتضاعف خوفنا عليها ليس بسبب التظاهرات الإخوانية المطالبة بعودة الرئيس المعزول محمد مرسي إلى السلطة، وإنما من تحول هذه التظاهرات، التي أصبح أغلبها اعتصامات، إلى الفتيل الذي سيشعل نار الفتنة والاحتراب في عموم مصر والتي إذا اشتعلت لن توفر أحدًا، ولن تقتصر ألسنتها على حدود مصر، بل ستتحول إلى كرات لهب إلى محيطها العربي والإقليمي، خاصة وأن هناك من يعمل على مراكمة وسائل الاشتعال بالتحريض والتأليب داخليًّا من قبل الإخوان المسلمين ذاتهم الذين اعتبروا أنفسهم مشروع شهادة، وأن الجيش المصري هدف مشروع لهم، وخارجيًّا متمثلًا في التدخل الأميركي والأوروبي السافر في الشأن الداخلي المصري، وممارسة ضغوط غير مبررة على القوات المسلحة، وذلك لتأجيج النار المشتعلة في قلوب أنصار مرسي وتأجيج أوار الفتنة، وما كان لهذا التدخل السافر وبهذه الطريقة المرفوضة والمستفزة أن يكون لولا أنه يخفي أسرارًا لا نعلمها نحن ونجتهد في استنتاجها، وكذلك محاولة توظيف “مشروع الشهادة” للإخوان توظيفًا لتدمير مصر. ولا أعلم حقيقة أي شهادة يقصدون؟ هل الشهادة الجامعية أم الابتدائية أم شهادة العنف؟ لأنه لا يمكن لمسلم عاقل ينطق بالشهادتين يعد نفسه شهيدًا بتعمده قتل أخيه الذي ينطق أيضًا بالشهادتين.
ما يحسب اليوم للقوى الامبريالية الاستعمارية الغربية أنها استطاعت ابتكار وسائل وأساليب غير الوسائل العسكرية والحروب المباشرة من أجل فرض هيمنتها على المنطقة وإعادة رسم خريطتها الجغرافية والسياسية والاقتصادية والأمنية، استفادة من تجارب الماضي وتجربة العراق، وتتمثل هذه الوسائل في التدمير الذاتي؛ أي تدمير المنطقة لذاتها عبر أدوات يتم صناعتها وعملاء يتم إعدادهم من الداخل للقيام بالمهمة، وأول ما تستهدفه عملية التدمير هو المؤسسة العسكرية وحل الجيوش وإعادة تشكيلها. وكما هو معروف، هناك ثلاثة جيوش عربية قوية وكبيرة في المنطقة تبعًا لقوة وكبر دولها وهي: الجيش المصري والجيش العراقي والجيش السوري، وتاريخ هذه الجيوش الثلاثة تاريخ مشرف قدمت عبره عشرات الآلاف من جنودها في سبيل صون الكرامة وشرف الأمة ومقاومة الاحتلال الصهيوني ونصرة الشعب الفلسطيني. وعملية التدمير في مجملها واستهداف هذه الجيوش الثلاثة خاصة من أجل تأمين بقاء كيان الاحتلال والإرهاب الصهيوني قوة دون غيرها، ليكون الشرطي على المنطقة. وللأسف وعبر أدوات وعملاء الداخل نجحت القوى الامبريالية الاستعمارية الحليفة لكيان الاحتلال الصهيوني تدمير العراق وحل الجيش العراقي القوي، وعبر أدوات وعملاء الداخل يجري تدمير سوريا وإنهاك جيشها العربي الباسل، ويراد الآن السيناريو ذاته، بل ربما تجري مراحل إعداده، ضد مصر وجيشها الوطني القوي المتماسك، ويبدو أن الواقفين وراء ذلك والمستعجلين له يستشعرون خطر حصول تغيرات مفاجئة ربما تطول معاهدة كامب ديفيد.
صحيح أن المشهد المصري لم يبح بكامل تفاصيله وبجميع أسراره، ولا يزال شيء من الغموض يكتنفه، لكن يمكن استلماح بعض الأسباب من المساومات من جانب الإخوان ومن ورائهم الولايات المتحدة وأوروبا مع القوات المسلحة:
أولًا: الولايات المتحدة ترغب في إقامة قاعدة عسكرية لها في سيناء لحماية كيان الاحتلال الصهيوني، وهذا ما رفضه الرئيس المخلوع حسني مبارك، وما صرح به لصحيفة الوطن المصرية ليس من قبيل المصادفة، وإنما كان مختارًا بعناية لأنه يدرك أن المطلب الأميركي لا يزال قائمًا، ومن يحققه سيحصل على الدعم اللازم لبقائه في السلطة.. فمصر الدولة العربية تقريبًا التي تخلو من قاعدة عسكرية غربية عمومًا، ولكن للمتابع الحق في أن يعرف أن الهدف من ذلك هو نشر مظلة صاروخية أميركية لحماية كيان الاحتلال الصهيوني، ففي الأردن أقامت الولايات المتحدة منظومات صواريخ وطائرات “أف 16” المقاتلة، وفي تركيا على الحدود السورية نصب حلف شمال الأطلسي بطاريات صواريخ، ولاكتمال المظلة لا بد أن تنصب منظومة في سيناء المصرية، وكذلك لتكون وسيلة ضغط وتهديد لمصر في حال أي إخلال باتفاقية كامب ديفيد، ولعدم إعطاء الجيش المصري أي مبرر لدخول سيناء، إذ ستتكفل القاعدة الأميركية بكل شيء ومواجهة أي طارئ.
الثاني: وهذا مرتبط بما قبله، فهناك حديث عن وثائق سرية تطرح رؤية اقتطاع جزء من سيناء لتكون مع قطاع غزة وطنًا بديلًا للشعب الفلسطيني، إلا أن هذا الوطن البديل ـ في حال خرج إلى العلن ـ قد لا تقدر مصر وحدها على الإشراف عليه أمنيًّا، وبالتالي ستلعب القاعدة العسكرية الأميركية دورًا مساندًا لمنع أي هجمات قد تشن على كيان الاحتلال الصهيوني. وبموازاة هذه الوثائق، هناك أنباء عن موافقة من قبل مرسي وجماعته الذين سيتعدى دورهم إلى إقناع امتداد الجماعة المتمثل في حماس بالقبول بالحل السياسي المطروح.
وما من شك أن الانقلاب الشعبي على الرئيس محمد مرسي وعزله من منصبه غيَّر كل المعادلات، بل إنه شكَّل مفاجأةً وصدمةً للولايات المتحدة وحليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الصهيوني، ولذلك تعمل واشنطن جاهدة على ابتزاز مصر من خلال التهديد بقطع المعونات للجيش المصري، وتحريك سفن حربية إلى مصر لأول مرة منذ انتهاء الحرب بين مصر وكيان الاحتلال الصهيوني، وتارة بعدم الرغبة في تسليم طائرات من نوع “اف 16″، وتارة بتأجيج الصدام مع الجيش وتصويره على أنه انقلاب عسكري، وتوغير صدور الإخوان المسلمين ضد الجيش حاميهم وحامي وطنهم، والمطالبة بالإفراج عن الرئيس المعزول، ودعم الاعتصامات والتظاهرات التي تقودها جماعة الإخوان لشل الحياة وتعطيل الاقتصاد ومصالح الشعب المصري.
ما زلت أنظر إلى المساومة التي أطلقها محمد البلتاجي القيادي في حركة الإخوان المسلمين بضمان الهدوء ومنع العنف واستهداف الجيش والشرطة المصريين ومراكزهما في سيناء مقابل إطلاق محمد مرسي، على أنها مساومة خطيرة تحمل دلائل كثيرة وخبايا عديدة، وتعيد الذاكرة إلى حادثتي مقتل الجنود المصريين الستة عشر، وخطف الجنود المصريين السبعة ومن ثم الإفراج عنهم بصورة غامضة.
ختامًا، إننا بحاجة إلى مصر العروبة، التاريخ، الحضارة، القلب النابض، خير المجير للمستجير، المنافح عن قضايا الأمة، مثلما هي بحاجة إلى شعبها وإلينا، لذا ندعو الله أن يحفظ لنا مصر قوية أبية موحدة، وندعو أشقاءنا المصريين أن يحفظوا لنا مصر عصية على الأعداء، فأم الدنيا أكبر من شخص أو شخوص، ولا يستقيم اختزالها في فرد أو جماعة أو حزب.
خميس بن حبيب التوبي
khamisaltobi@yahoo.com