د.أحمد القديدي/المنعرج المصري من اللامعقول إلى المجهول؟

انعرجت الأحداث في مصر بشكل غير متوقع وغير واضح المعالم وأكاد أقول غير المعقول في زمن قياسي وغطت على شفافية الأحداث وحقيقة الأسباب تلك الأمواج الهادرة من الجماهير المصرية التي طغت هتافاتها على أصوات التحليلات واجتهادات الخبراء. فالسياسة في مصر لم تعد السياسة بمفهومها الأكاديمي أو الإتصالي والاجتماعي المتعارف عليه بل تحولت السياسة إلى ملعب أولمبي خاص لرياضات غير مسبوقة ولا تخضع لقوانين وأعراف. ومن هنا ندرك لماذا تلعثم واحتار كل من أراد أن يعلق على ما حدث أو يتخذ موقفا حياله من دول وأحزاب ومنظمات أممية أو إقليمية فلا تسمع هنا وهناك سوى ضجيج يزيد الحالة تعتيما واللوحة قتامة و يضيف للعبث عبثا.
ما الذي حدث حتى يعاد تركيب ديكور جديد في مسرح اللامعقول المصري؟ وأي مخرج عبقري رتب المسرحية وأي كاتب وضع نصها وأي ممثلون اختيروا للعب أدوارهم بدقة ثم أي جمهور سيشاهد هذا العرض؟ فعندما تم انتخاب محمد مرسي عن الإخوان المسلمين أمام أحمد شفيق عن المنظومة القديمة تنفسنا الصعداء وقلنا ربنا يستر فالرئيس الإخواني على صفيح ساخن والجماعة الإسلامية لم تتعود على ممارسة شؤون الدولة ولا إدارة الأزمات الكبرى وهم يعلمون أن الذين يناصرونهم في البلاد أقلية لأن المجتمع المصري لم يعرف الحياة السياسية إلا بعد ثورة 25 يناير شأنه في ذلك شأن كل المجتمعات العربية التي جددت طواقم الحكم فالسياسة بأبعادها الحقيقية والسوسيولوجية لا تقتصر على إجراء انتخابات أو السماح بنشاط أحزاب بل هي في جوهرها تعاقد شعبي على حياة مدنية سلمية يتنازل فيها كل طرف على جزء من مطالبه وحتى قناعاته ويلتزم فيها باحترام الرأي المخالف وإفساح المجال للتداول الطبيعي والمدني على السلطة برضا الأغلبية وهي عقد تشاركي بالتراضي والتناصح والتواصي بالحق والقبول بالآخر المختلف ندا سياسيا والسياسة هي المواطنة في أخر الأمر أي حقوق وواجبات كل فرد من أفراد المجتمع وإعلاء لمصلحة الوطن. وكنا في أوروبا نلاحظ بإعجاب كيف يتعاقد البلجيكيون على ملك واحد وراية واحدة ودستور واحد بينما بلجيكا هي ثلاثة أقاليم لكل منها لغة ومذهب ومصالح بل وتاريخ وثقافة. وكذلك في سويسرا ومثله في ألمانيا والولايات المتحدة. هي جميعا فيديراليات مدنية تضمن الحقوق و تفرض الواجبات. أما السياسة عند العرب عندما تم إبعاد الاستبداد واعتقدنا أننا دشنا عهدا ديمقراطيا فتحولت بسرعة عجيبة إلى حلبة صراع وانفراد وإقصاء وكم نحن محتاجون لمنديلا عربي يؤلف بين القلوب ويقرب بين الضمائر. الذي حدث في مصر هو انتخاب رئيس بنسبة بسيطة ينتمي لجماعة فكرية وعقائدية في بلاد فيها ثمانية ملايين قبطي وخمسون مليون مواطن يفكرون في تحسين حالتهم وتطوير مستوى عيشهم أكثر من تفكيرهم في هوية الحاكم وبنود الدستور وقرارات المحكمة الدستورية لأنه بكل بساطة في مصر وفي كل بلاد العالم الملقب بالثالث لا تستقيم السياسة إلا بعد أن يوفر المرء ما يسد به الرمق و يضمن الماء الصالح للشراب واسطوانة الغاز وبعد أن يجد مقعدا في المدرسة لعياله و شغلا للولد الذي تخرج بشهادة ومستوصفا للعلاج إذا ما مرض وحافلة نقل ليذهب صباحا إلى عمله. ثم تأتي السياسة حين يشرع في التفكير في ناد رياضي ومرفق ثقافي وتنوير الحي ورفع الزبالة وبسط الأمن أي الحاجيات التي تنشأ بالطبيعة حين يلبي المرء أساسياته المعيشية. السؤال هو هل بلغ العرب من ربيعهم إلى خريفهم مستوى مجتمعات السياسة أي مجتمعات المعرفة ؟ جوابي بصراة أمام الحالة المصرية هو (لسه يا فندم…) واقرأوا في الصحف المواقف الرسمية أو الشعبية التي صدرت في العالم العربي من مؤيد لحركة الجيش المصري إلى مندد بها والجميع يفسرون عبارة الشرعية حسب هواهم وحسب مواقعهم. ففي تونس حيا الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر وأعرق منظمة نقابية حركة التصحيح بينما أدانتها حركة النهضة المشاركة في الحكم وتلخبطت بيانات الأحزاب في تعريف الشرعية وأين تقع الشرعية وأين المكان الطبيعي للمؤسسة العسكرية والمكان الطبيعي لجماعة الإخوان ؟ وهل إن محمد مرسي رئيس حقيقي أم نصف رئيس وهل له أخطاء في إدارة البلاد وإعطاء الحقوق لأهلها خلال العام الذي قضاه في السلطة ؟ وهل تلك الأخطاء التي اعترف بها مرسي ذاته هي من النوع الذي لا يصلح وهل إن العقاب على قدر الخطإ؟
إلى أين تسير مصر؟ فالعنف الدموي يتهدد هذا المجتمع المسالم الطيب حتى عدنا لا نعرف المصريين حين نرى بعض المجاذيب يسحلون مسلمين شيعة وحين يشرع الخارجون عن القانون في سن قانون الغاب من مختلف التيارات فلا نتبين بصيصا من نور الأمل لأن الحلول التي سميت بالدستورية ونصب بمقتضاها المستشار عدلي منصور رئيسا لا تستقيم بعد حركة لم تكن دستورية هي الأخرى ولم تكن محل توافق أو تشاور فالمعارضة المصرية بكل أطيافها لم تكن تعلم بأمر التغيير ولم تشارك فيه وسمعنا عمرو موسى في إحدى القنوات لا يجد لسانه للتعليق والتفسير والتبرير فراح يبتكر مصطلحات عجيبة حول ما حدث وكأنه يوحي بأن ساعته هو قد أزفت ليتحمل مسؤولية في عهد ما بعد مرسي وربما ما بعد عدلي منصور! إن انعراج مصر نحو اللامعقول ونحو المجهول هو انعراج لكل البلدان التي غيرت أنظمتها القديمة لكنها لم تجد طريقها نحو الاستقرار والحريات ودول القانون و الحق في أنظمة جديدة لم تولد بعد.
الحيص بيص تجاوز مصر والعرب ليصبح واقعا دوليا واقرأوا فقط موقف الرئيس أوباما في البيت الأبيض المناقض تماما لموقف الكنجرس في الكابيتوول. هل هو انقلاب ؟ مع من و ضد من و إلى أي مصير ؟ رحم الله الضحايا الذين يموتون يوميا في مصر بدون وجه حق و بلا قضية ! و هدى الله العرب إلى سواء السبيل اللهم أمين.

د.أحمد القديدي
كاتب وسياسي تونسي

Related posts

اللي استحوا ماتوا* فارعة السقاف

تجربة النضال الفلسطيني: خصوصية مقاومة تقاوم التعميم* هاني ابو عمرة

كلفة الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي* جواد العناني