انطلاقاً من أهمية كسب عامل الوقت دأبت سلطات الاحتلال “الإسرائيلي” على مواصلة عمليات تهويد الأرض واستيطانها في منطقة القدس على محيطها وداخل أحيائها العربية الإسلامية والمسيحية، بخطوات مبرمجة، للزحف في كافة اتجاهات المدينة، لفرض وقائع على الأرض يصعب الانفكاك عنها في حال تم التفاوض بشأنها مستقبلاً، ولا تفرق سلطات الاحتلال بين فلسطيني مسلم وفلسطيني مسيحي، أثناء تنفيذ السياسات السكانية أو الاقتصادية لخدمة التوجهات “الإسرائيلية” في المدينة المقدسة.
فقد أدت السياسات السكانية “الإسرائيلية” تجاه المواطنين العرب في القدس إلى تهجير نحو خمسين ألف مقدسي فلسطيني منذ عام 1967، إلى خارج حدود البلدية أو إلى خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهناك محاولات لطرد نحو خمسين ألف فلسطيني آخر خلال السنوات التالية خارج القدس، في إطار السياسات السكانية “الإسرائيلية” التي تحرم الفلسطينيين الحصول على الإقامة في أرض أجدادهم في مدينتهم، بل وتضع العراقيل الكبرى أمام أبناء المدينة وعموم مواطنيها في وقت تتدفق فيه على القدس قوافل المهاجرين اليهود من مختلف أصقاع المعمورة حتى لو تدنت نسب قدومهم عن أعوام سابقة مع جفاف مصادرة الهجرة التوسعية الصهيونية إلى ارض فلسطين التاريخية.
وفي الوقت الحالي، يواجه المقدسيون الفلسطينيون الذين لا يحملون بطاقات شخصية صالحة للإقامة في القدس (من الوجهة الإسرائيلية) مشاكل عديدة، من بينها مواجهة سياسات الإبعاد ودفع الغرامة والاعتقال، وعدم استطاعتهم الحصول على أذون مغادرة وعودة للسفر إلى الخارج، فضلاً عن حرمانهم من السفر إلى الضفة الفلسطينية، ومنعهم من العودة إلى القدس الشـرقية حال غيابهم لفترات معينة خارج فلسطين بقصد الدراسة أو العمل، وعدم استطاعتهم تسجيل أطفالهم كمواطنين مقدسيين، وحرمانهم من مزايا التقاعد والضمان الاجتماعي، فضلاً عن مواجهة مشاكل في تسجيل أبنائهم في المدارس والجامعات في القدس، أو استئجار شقق مفروشة في المدينة، وقد أرغمت تلك السياسات “الإسرائيلية” إزاء حقوق الإقامة والمواطنة، العديد من الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين على حد سواء، إما على مغادرة القدس أو الحصول على المواطنة “الإسرائيلية”، أو الاختباء السري.
إن من شأن تلك السياسات، وكما تريد سلطات وتبتغي سلطات الاحتلال أن تحد من تزايد أعداد المواطنين العرب الفلسطينيين في مدينة القدس، وأن تدفع بأعداد منهم على المغادرة خصوصاً مع تزايد حالات الفقر والفاقه والتراجع العام لمستويات الحياة وجفاف مصادر العيش الكريم أمام عموم الناس من المواطنين الفلسطينيين المقدسيين، خصوصاً في ظل غياب عوامل الدعم والإسناد العربية والإسلامية كما هو مطلوب ومفترض، وغياب التنفيذ العملي لقرارات القمم العربية الأخيرة بشأن القدس وصندوق القدس.
فالوضع الاقتصادي العام للسكان والمواطنين الفلسطينيين المقدسيين يشكّل في حقيقة الأمر محصلة سياسات “إسرائيلية صهيونية” متواصلة عبر عقود طويلة منذ الأحتلال الكامل للمدينة في حزيران/يونيو 1967، حيث أدت تلك السياسات إلى إضعاف كبير للقدس الشرقيّة في جميع المناحي الحياتية. فقد فرض القانون الإسرائيلي بعيد احتلال المدينة عام 1967، على البلدة القديمة والأحياء الفلسطينية المجاورة، وعلى بعض القرى المتاخمة، بتحويل السكان مُكرهين إلى مُقيمين دائمين في “إسرائيل” وليس بموقعة أصحاب المدينة وأبنائها الأصليين، وأصبحوا من وقتها يحملون بطاقات الهُويّة الزرقاء، ويتحلون بمكانة قانونية تختلف عن مكانة سكان سائر السكان والمواطنين، وبالطبع من الوجهة “الإسرائيلية” الجائرة والمدانة والمرفوضة وفق القانون الدولي والشرعية الدولية التي تَعَتَبر القدس الشرقية أرضاً فلسطينية محتلة.
وعليه، إن الوضع الاقتصادي لسكان القدس من مواطنيها العرب الفلسطينيين يتدهور باستمرار وقد بات خطيراً جداً، فقرابة نحو (78%) من سكان المدينة، يعيشون دون خط الفقر. وقد تناولت دراسة نشرت مؤخراً تأثير سياسة الفقر على الاقتصاد في القدس الشرقية، وتداعيات الممارسات “الإسرائيلية” على النواحي الاجتماعية المختلفة. وحسب الدراسة التي أجرتها جمعية (حقوق المواطن) أن الهدف من وراء إعدادها هو التحذير من انزلاق مزيد من العائلات الفلسطينية إلى دوائر الفقر بوتيرة متسارعة، والوقوف على المعوقات التي يواجهها الفلسطينيون عند قيامهم بالبحث عن عمل يمكنهم من تحقيق العيش الكريم، علاوة على كشف السياسة “الإسرائيلية” التي دفعت نحو تدهور حدوث بالغ في الوضع الاجتماعي ـ الاقتصادي، والانتهاك المتكرر لحقوق السكان، والتي تسببت في واحدة من وجوهها في إغلاق آلاف المحلات التجارية الفلسطينية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة، حيث باتت المنطقة الصناعية الوحيدة في وادي (الجوز) مهددة بالإغلاق بكاملها، حيث قامت بلديّة القدس مؤخراً بتوزيع أوامر إخلاء لأصحاب المصالح في تلك المنطقة، بحجة النية لتوسيع الشوارع، ولأن هذه الورش تقع في قلب حيّ سكنيّ.
وأشارت الدراسة القيمة المشار إليها اعلاه، إلى أن حوالي (85%) من النساء ونحو (40%) من الرجال، هم خارج إطار العمالة في مدينة القدس. وعزت الدراسة ذلك إلى عدم توفر أماكن عمل، ولا تصاريح لإقامة مراكز أعمال جديدة، لاستيعاب المزيد من الطاقات البشرية.
وكشفت الدراسة ذاتها أن السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية “يعانون من الفقر المدقع، ومن أفق تشغيلي محدود جداً، ومن جهاز تعليم مهمل وضعيف، ومن غياب للبنى التحتية المادية والاقتصاديّة”. مضيفة بأن الوضع الاقتصادي في القدس الشرقية خطير جداً، حيث يقبع نحو (78%) من السكان ونحو (84%) من الأطفال تحت خطّ الفقر.
وبالمحصلة، إن القدس وعموم مواطنيها العرب الفلسطينيين، في لحظات صعبة من تاريخ الصراع المفصلي مع المشروع التوسعي الكولونيالي الصهيوني. فأخطبوط الاستيطان والتوسع ينهب الأرض كل يوم، والإجراءات “الإسرائيلية” تزيد من وتيرة الضغط المسلط على عموم المواطنين الفلسطينيين من ابناء القدس االصامدين على أرضها وترابها لدفعهم نحو الخروج من المدينة ومغادرة أرض وطنهم باتجاه الهجرة والمنافي البعيدة. وبالرغم من كل ذلك فإن صمود المقدسيين يشكل الآن علامة فارقة في سفر الكفاح الوطني التحرري للشعب العربي الفلسطيني، حيث مازال هناك غالبية فلسطينية تقيم على حدود القدس الكبرى (متروبلين القدس) بالرغم من كل سياسات الاحتلال القائمة على مواصلة عمليات التهويد والاستيطان واستجلاب الأعداد من اليهود من كافة أصقاع المعمورة بغرض إحداث إنقلاب ديمغرافي كبير لصالح أغلبية يهودية وأقلية عربية متواضعة العدد في منطقة القدس الكبرى.
علي بدوان* كاتب فلسطيني/دمشق