تُشير الإحصاءات المُدققة والمعطيات الرسمية التي وزعها ونَشَرَها منذ مدة، ما يسمى بمعهد تخطيط سياسات “الشعب اليهودي” الذي أسسته الوكالة اليهودية إلى أن أعداد اليهود في العالم ككل أخذة بالتراجع والانخفاض لأسباب مختلفة، ففي الثلاثين عاماً الأخيرة انخفض عدد اليهود خارج فلسطين المحتلة بـ (2.3) مليون نسمة، في حين بات يبلغ الآن وفق تقديرات الوكالة اليهودية (7.76) مليون فقط. ووفقاً للمعطيات الإحصائية فإن قوام يهود العالم، داخل “إسرائيل” وخارجها، يراوح منذ بضعة عقود حول الثلاثة عشر مليون نسمة. حيث يلاحظ ضعف أو عجاف النمو السكاني لليهود في العالم قياساً بأحوال الآخرين ضمور الزيادة الطبيعية إلى أبعد الحدود (الولادات ـ الوفيات). فقد أشارت المعطيات المنشورة إلى أن عدد اليهود في العالم ككل بما في ذلك فلسطين المحتلة تبلغ (13.1) مليون يهودي. فقد طرأ انخفاض بنحو (24%) في أعداد يهود جنوب القارة الأميركية، حيث تبقى (393) ألف يهودي موزعين وفق التالي : (84) ألف يهودي يسكنون في الأرجنتين، (96) ألفا في البرازيل، وفي المكسيك يوجد (40) ألف يهودي. أما في شمال إفريقيا فقد طرأ انخفاض كبير في عدد اليهود، حيث بقي إلى الآن مع منتصف العام 2008 في المنطقة المذكورة خمسة آلاف مواطن يهودي فقط مقابل (83) ألفا كانوا مقيمين في أوطانهم الأصلية شمالي القارة الإفريقية في العام 1970. وفي جنوب إفريقيا فمن أصل (124) ألف يهودي كانوا في العام 1970 بقي منهم الآن (72) ألفا فقط. أما في دول آسيا أيضاً فقد سجل انخفاض كبير في عدد اليهود، ومن أصل (100) ألف يهودي كانوا يعيشون داخل بلدانهم الأصلية في دول القارة الآسيوية في العام 1970 لم يتبقَ سوى (20) ألفا حتى منتصف العام 2008، أغلبيتهم الساحقة في إيران. بينما بقي بحدود (300) يهودي يمني ما زالوا في بلدهم الأم، وعدد ضئيل جداً في سوريا. أما في استراليا ونيوزيلندا فقط طرأ ارتفاع في عدد اليهود فقد بلغت أعدادهم (111) ألفا مقابل (70) ألف في العام 1970.
أما بالنسبة لعدد اليهود في شمالي أميركا وتحديداً في الولايات المتحدة والمكسيك وكندا فلم يتغير بعد بشكل كبير، لأسباب معلومة ومنطقية، رغم موجات الهجرة اليهودية الكبرى من شرقي أوروبا باتجاه القارة الأميركية، حيث تبلغ الآن أعداد المواطنين من اليهود في البلدان المذكورة (5.6) مليون مواطن يهودي. أما في أوروبا الغربية، فقد طرأ انخفاض بنحو (5%) في عدد اليهود. ومن المعلوم أن المؤشرات والمعطيات الرقمية الأخيرة قد أشارت إلى أن عدد يهود بريطانيا بلغ (300) ألف مواطن معظمهم يعيشون في مدينة لندن وضواحيها، حيث كان قد غادر إسرائيل بصفة مهاجرين إلى بريطانيا (30) ألفاً خلال العقدين الماضيين ضمن هجرة معاكسة أي ما نسبته (10%) من عدد يهود بريطانيا. أما في فرنسا فقد بلغ عدد اليهود (600) ألف وهي الدولة التي تضم أكبر عدد من اليهود في أوروبا، وتأتي في المرتبة الثانية بريطانيا وفي المرتبة الثالثة ألمانيا التي أصبحت تضم (200) ألف من اليهود الذين عادوا أو هاجروا إليها من يهود إسرائيل وروسيا ومن بعض دول أوروبا الشرقية. فإسرائيل تجد أن هذه الدول الثلاث يعيش فيها بصفتهم مواطنين (1.1) مليون من اليهود قد تكون نسبة الإسرائيليين الذين تخلوا عن إسرائيل من بينهم (30%) وهو ما يقلق قادة المشروع الصهيوني ويحرمهم قوة بشرية ذات خبرة تجعلهم غير قادرين على حماية أهداف مشروعهم الصهيوني في التوسع والقيام بالدور الوظيفي المطلوب في الوطن العربي ومنطقته.
وفي هذا الإطار فإن كل المؤشرات الدراسية تنحو للاستنتاج بأن اليهود الفرنسيين في فرنسا يفضلون كندا في حال رغبتهم بالهجرة، واليهود من جنوب أميركا يفضلون أستراليا، واليهود من الأرجنتين يفضلون مدن الساحل الغربي للولايات المتحدة على تل أبيب. في الوقت الذي لا تخفي فيه مصادر الوكالة اليهودية رغبتها الجامحة لدفع يهود فرنسا على وجه الخصوص للهجرة الجماعية نحو الكيان الصهيوني، مع توافر ثلاثة عوامل محبذة وراء ذلك من حيث التعداد النسبي العالي ليهود فرنسا البالغ عددهم بحدود (600) ألف أولاً، وقوة نفوذ هذا التجمع في المؤسسات الفرنسية الرسمية وغيرها ونفوذ اللوبي اليهودي في فرنسا مع تعدد المنظمات اليهودية المنتشرة هناك، والسطوة الواضحة للاتجاه اليهودي الأرثوذكسي وأهدافه المتقاطعة مع اليمين “الإسرائيلي” بشقيه العلماني والتوراتي ثانياً، وتأثيره العالي في الدائرة الأوروبية ثالثاً.
أخيراً، ان نشوء “إسرائيل”، بكل معانيها وفوائدها المزعومة والمفترضة صهيونياً، لم يؤد إلى تحولات فارقة في الخط البياني لنمو أعداد اليهود في العالم. وتسري هذه الملاحظة على من آثروا الهجرة إلى هذه الدولة/الكيان والاستيطان فيها سريانها على الممتنعين عن الاستجابة لدعوة الهجرة إلى فلسطين المحتلة.
ولولا المدد السكاني الخارجي، غير الطبيعي والمعرض للتذبذب أصلاً وربما للانقطاع كليًّا، لبقي اليهود أقلية على أرض فلسطين التاريخية بين نهر الأردن وشاطئ المتوسط وربما داخل “إسرائيل” ذاتها.
وبالمحصلة فقد فشل المشروع الصهيوني وكيانه السياسي في تحسين خصوبة الأسر اليهودية وزيادة قدرتها على المنافسة عددياً، فإن تساوي تعداد القطاعين اليهودي الفلسطيني بين النهر والبحر بات وشيكاً، لا يتعدى العام 2016 وليس 2040 كما كان الزعم السائد إلى وقت قريب. وعليه تتابع النخب الصهيونية هذه الحقائق الميدانية بمشاعر مُختلطة من القلق والإحباط والغضب وعدم الارتياح والخوف.. الأمر الذي يتردد صداه في البدائل المتداولة فكريًّا وسياسيًّا بشأن كيفية التعامل مع هذا المُتغير السكاني بالغ التأثير على مسار “إسرائيل” ومصيرها.
علي بدوان* كاتب فلسطيني/دمشق