قطبا الإسلام السياسي، السني والشيعي، وراعيتا جهود «التثوير» وحركات «التغيير» في المنطقة، تركيا وإيران، أُصيبتا بالعدوى. الأولى لم يعد بإمكان رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان ضبط الشارع المتبرم عبر استخدام القوة أو التلويح باللجوء إلى الجيش، ولا عبر تذكيره كل الوقت بـ «المعجزة» الاقتصادية التي حققها، والثانية يحاول مرشدها الأعلى امتصاص موجات «الزلزال الانتخابي» الذي جاء برئيس معتدل فاز بأصوات الإصلاحيين ودعاة التغيير.
المؤسستان الدينيتان الحاكمتان في أنقرة وطهران لم تعودا بمنأى هما الاثنتان عن الرياح التي ساهمتا في إثارتها، ولو أن ذلك يتخذ حتى الآن طابعاً أقل مواجهة مما حققتاه في العالم العربي، والذي عملتا منذ وصولهما إلى السلطة على جعله ساحة لترويج نموذجيهما: تركيا في صورة الاعتدال الذي يخفي رغبة عميقة في التسلط وإحياء تقاليد «الخلافة العثمانية»، وإيران عبر استغلال الأقليات الشيعية العربية وزجها في مواجهات عبثية مع مجتمعاتها.
فالتمرد الحاصل على سلطة «حزب العدالة والتنمية» في شوارع إسطنبول وأنقرة ومدن أخرى لم يعد مجرد احتجاج على مشروع لقطع أشجار حديقة وبناء مجمع تجاري مكانها، بل بات، مع الشعارات التي ترفع والهتافات التي تردد، إعلاناً برفض الانقلاب الديني المتدرج على الدولة العلمانية ومؤسساتها، وخصوصا الجيش والقضاء، ولاستراتيجية الإسلاميين التي طوت صفحة التطلع نحو أوروبا بما تتضمنه من التزام بقوانين الشفافية والديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، واختارت بدلاً منها الانخراط في الحيز الجغرافي السابق للسلطنة، بما يعنيه ذلك من تأجيج للمشكلات العرقية والديموغرافية والدينية التي تعاني منها تركيا أصلاً.
إنها صرخة تقول كفى لعشر سنوات من «الأسلمة» حاول أردوغان خلالها تغيير وجه تركيا الذي رسمه أتاتورك قبل تسعة عقود. صحيح أن أردوغان جاء إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، لكن نسبة 50.4 في المائة لا تخوله الانقضاض على كل ما سبقه والتفرد بالقرار من دون أي حساب لنصف الشعب التركي الذي لم يصوت له. وحتى لو تمكن من إسكات حركة الاحتجاج موقتاً، فإن شيئاً ما انكسر بينه وبين شعبه.
أما في إيران التي حصل رئيسها الجديد على أصوات 18 مليون ناخب، متقدماً بفارق كبير على المرشحين المحافظين الثلاثة، وأحدهم «مفضل» لدى خامنئي، فيعني ذلك أن حركة التغيير الإصلاحية التي أُجهضت قسراً قبل أربع سنوات عبر تزوير نتائج الانتخابات وزج قادتها في السجون، عادت لتفرض نفسها بقوة لا يستطيع أحد إنكارها أو الالتفاف عليها، مستفيدة من التدهور الحاصل في البلاد على كل الأصعدة بسبب العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية وسوء الإدارة.
المشروعان الدينيان التركي والإيراني اصطدما أولاً بالأوضاع في الإقليم قبل أن تنتقل المواجهة إلى داخلهما، فالاستنساخ المصري للنموذج التركي، على سبيل المثال، لم ينجح في فرض الاستقرار، وما زال نظام «الإخوان» في القاهرة عاجزاً عن إقناع المصريين والعالم بقدرته على قيادة دولة لكل أبنائها، فيما يحاول جاهداً تغيير هويتها الجامعة. وهو ينتظر امتحاناً قاسياً لمصيره نهاية الشهر.
أما إيران، ففشلت الحروب بالوكالة التي شنتها على أكثر من جبهة، ولم تتمكن من استفراد دول مثل البحرين أو اليمن وعزلهما عن محيطهما العربي. وحتى وكيلها اللبناني «حزب الله»، الذي نجح جزئياً لأن العرب رفضوا في البداية معاداة طرف يحارب إسرائيل، بات الآن في مواجهة حادة مع باقي المكونات اللبنانية وسائر العرب بعد تورطه المباشر والعلني إلى جانب النظام السوري.
هل يمكن القول إن النظامين الدينيين في تركيا وإيران يقتربان من نهايتهما؟ ربما من المبكر الخروج بهذه الخلاصة، لكنهما بالتأكيد وصلا إلى ذروة قدرتهما وباشرا الانحدار.