عبد الوهاب بدرخان /هزيمة الشعب في سورية.. احتمال ممكن؟

السؤال مطروح منذ حصار بلدة القصير، وليس فقط منذ احتلتها قوات «حزب الله» ثم دعت قوات النظام إلى دخولها. اللواء سليم إدريس حذّر من الهزيمة ما لم يتم تزويد «الجيش الحر» بالسلاح. فالنظام كما المعارضة يعتمد على الخارج، وأثبتت الوقائع أن دعم الحلفاء للنظام صلب وملتزم أما دعم «الأصدقاء» للمعارضة فأوصلها وأوصلهم إلى أفق مسدود. بذل المدافعون عن القصير ما كان مستطاعاً، وبرهن النظام ومرتزقته أنهم قوة احتلال. كان القتال قتال سوريين ضد قوة خارجية، غريبة عن سورية وعن لبنان، استدعاها النظام لتمكينه من السيطرة، مؤكداً للمرة الألف أن مفهوم «السيطرة» عنده أن تكون المدن والبلدات مدمرة أو أن يكون أهلها مدمّرين مستكينين خائفين صامتين، كما كانوا قبل عامين ونيّف.
لماذا سقطت القصير؟ لأن موقعها الجغرافي مكّن غزاتها من استفرادها وإحكام عزلها عن جوارها المساند. أما تضخيم موقعها «الاستراتيجي»، ووجودها «عقبة» أمام تواصل دمشق مع منطقة الساحل، فلا يختلف كثيراً عن رواية النظام عن «الإرهابيين والعصابات المسلحة»، بل يشي بأن مَن في دمشق لم يعد مهتماً بالتواصل مع حلب وإدلب والرقّة ودير الزور ودرعا، بل يهجس فقط بتأمين «طريق الهروب» إلى الساحل ذي «الكثافة العلوية». لكن إسقاط القصير، بعد انتهاج سياسة «الأرض المحروقة» في ريفي العاصمة شرقاً وغرباً، كانا المحك الأول لـ «الخبرات» الإيرانية التي بدأت تفعل فعلها.
أخطر ما في واقعة القصير أنها أتاحت للنظامين السوري والإيراني و «حزب الله» أن يجسدوا نموذجاً لتدخل خارجي يغيّر موازين القوى، وينهي معادلة «لا انتصار ولا هزيمة» لأي من الطرفين، المعارضة والنظام. تلك المعادلة المختلّة أصلاً بسبب «الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب» التي يرتكبها النظام «يومياً» (تقرير محققي لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة)، لكنها أيضاً المعادلة التي بُنيت عليها نظرية «الحل السياسي»، بل بُني عليها «بيان جنيف» الذي لم يقبله النظام ولا في أي لحظة، على رغم موافقته «الرسمية» المراوغة عليه. ولم يقبله الروس والإيرانيون إلا لتمرير تفسيرهم المتطابق مع تفسير النظام: الحل يقوده حليفهم بشار الأسد وإلا فلا حل. أما التصريحات الروسية المبدية تخلياً مبدئياً عن الأسد وعدم اهتمام بمصيره فكانت مجرد تضليل مكشوف، وزاد انكشافاً في التحضير لـ«جنيف 2».
لكن الأسوأ والأكثر خطراً في واقعة القصير هو ترسّخها في أذهان الرأي العام العربي والمسلم بأنها المعركة المذهبية الأولى، بل «الانتصار» الشيعي الأول على السنّة، بل بداية الانتقام الفعلي من كأس السمّ الذي تجرّعه الخميني بنهاية حرب «عراق صدّام» على إيران. ومَن رفض النظر إلى القصير من هذه الزاوية تولّت خطب حسن نصرالله وردود يوسف القرضاوي، والدعوات إلى «الجهاد»، ودعوة محمد خضّور جنوده إلى القتال «تحت راية الحسين»، توكيد هذا الجنوح المجنون نحو تصفية حساب مذهبية تحت عنوان ثبت كذبه لأن الأفّاكين لا يرون سوى هذا النظام المجرم رمزاً لـ «المقاومة والممانعة»، وبئس الرمز. فبهذا الصراع المتمذهب يهدون إلى إسرائيل ذروة أهداف كانت حتى الأمس القريب تظنّها أضغاث أحلام.
ماذا تمثّل واقعة القصير، وماذا بعدها؟ يشير انتشاء النظامين السوري والإيراني و «حزب الله» إلى يقينهم بأنهم حققوا للتوّ «نصراً إلهياً» آخر على «المؤامرة» التي شاركوا في نسجها ضد الشعب السوري، بمقدار ما توحي ردود فعل الغربيين ممن يسمون أنفسهم «أصدقاء سورية» بأنهم على أتم استعداد للتضحية بالشعب السوري ودمائه لأن طموحاته البسيطة والبديهية لا تحقق مصالحهم، ولأنهم منذ البداية نفذوا اللعبة كما أراد لهم الأسد وحلفاؤه أن يفعلوا. لذلك، لا شيء يمكن أن يقنع «المنتصرين» بالاكتفاء بالقصير للذهاب إلى جنيف، بل سيتابعون وفقاً للخطط المرسومة، ولا يبالون بأن تصبح المدن كلها حجراً على حجر وأثراً بعد عين. سيتابعون غير مهتمّين بما يفكّر فيه البيت الأبيـــض وقــــد انكشف أمامهــم مــنذ زمــــن، فلا «خطّه الأحمر» أحمر، ولا إنذاراته تخيف أحداً، ولا حتى توسّلاته لموسكو بأن تسهّل حلاً سياسياً يمكن أن تجدي بعد الآن. بل إن إسرائيل التي ساهمت في تخدير الدور الأميركي وتكبيله تطوّر تنسيقها مع الكرملين لأنها ترى دوره المستقبلي أكثر انسجاماً مع «مصالحها السورية».
فهي تلتقي مع روسيا وإيران و«حزب الله» على أفضلية بقاء الأسد ونظامه، مثلما التقت مع إيران في اختلاس السيطرة على العراق، بل تلتقي معها استراتيجياً في استهداف أمن الخليج واستقراره.
بعد شهرين على اشتعال الثورة السورية، تحديداً في 19 أيار (مايو) 2011، خصص باراك أوباما خطاباً لـ «الربيع العربي» ليسجّل أنه كان لأميركا دور وفضل في حسم ثورتي تونس ومصر في أقل من ثلاثة أسابيع. لكنه بالنسبة إلى سورية، حيث لا قدرة لواشنطن على التأثير، اختار هذا الموقف: «على الرئيس السوري أن يعلن مشروعاً للإصلاح ويقوده أو أن يخلي مكانه».
لا يزال أوباما عند هذه العتبة ولم يتجاوزها، بل إن جون كيري حمل إلى موسكو تراجعاً عن «التنحي»، ولم يعد بين أوباما وبين إعلان تأييده بقاء الأسد في منصبه سوى مسافة قصيرة جداً. دعنا من التمنيات، ومن التصريحات المصاغة للتعمية وأحياناً للإيحاء بعكس المظنون والمضمر، فبعد كل ما حصل يمكن القول الآن أن السياسة الأميركية، كما طُبّقت سرّاً في الاتصالات مع روسيا لم تخرج عملياً من مــــربّع بقاء الأســـد «ولكن فليوقف القتل، لأنه يحرجنا»، وكما طُبّقت علناً مع الحلفاء وفي إطار «الأصـــدقاء» وفي اللقاءات مع ممثلي المعارضة وضباط «الجيش الحرّ» ظلّت دائماً «محيّرة ومضللة وزئبقية ومتـــلوّنة وغير مفهومة المرامي»، وفقاً لتوصيفات من تعاطوا معها من سوريين وعرب وغربيين راهنوا على أميركا كي تقود تحركهــــم – في المقدمة أو من الخلف – لكنها قادتهم في النهاية إلى البلبلة والإحباط والضياع، والأخطر أنها تبدو وكأنها أخـــذت على عاتقها مهمة اقتياد الشعب السوري وثورته إلى الهزيمة التي خطّط لها نظام الأسد وحلفاؤه. فحــقيقة السياسات بنتائجــها لا بـــما ينثره السفير روبرت فورد من ورود أو سموم.
لا يعني ذلك أن أميركا تتحمّل وحدها المسؤولية، فالشعب السوري لم يهزم بعد، وهو لم يثر من أجلها أو استدعاءً لها. لكنه يمكن أن يُهزم ويُترك للمصير الذي يرسمه له مجرمو النظام إذا واصلت واشنطن تمكين موسكو من التحكّم بالأزمة وبحلها، حتى أن ميــــخائيل بوغــــدانوف طــــرح في جنيف صــيغة «الجبهة التـــقدمية» لتــــمـــثيل الــمعارضة ولم تعترض المندوبة الأميركية.
نعم، إن قسوة المحنة جعلت هذا الشعب يأمل بأن تكون أميركا صادقة في دعمه، إلا أنه بعد المنع الأميركي للتسليح النوعي وبعد اختزال الثورة بـ «القاعدة» والمتطرفين وبعد تجاهل صواريخ الدمار وأسلحة الإبادة الكيماوية وبعد اتفاق كيري – لافروف على الذهاب إلى «جنيف 2» وقطع كل إمدادات السلاح بذريعة العمل لـ«الحل السياسي» وبالأخص بعد القصير، لم تعد لدى الثوار أي أوهام بشأن الدور الأميركي الذي غرق في مخاوف أوباما ودسائس إسرائيل.
ثمة مسؤولية مباشرة، جسيمة وحاسمة، تقع على المعارضة السورية نفسها، وإذا كانت معارضة الداخل لم تبخل بالتضحيات فإن إطالة الأزمة وشيوع الفوضى أدخلاها حالاً ميليشياوية فجعلت تقلّد «شبيحة» النظام في أسوأ مفاسدهم. أما معارضة الخارج فسجّلت فشلاً هائلاً في تنظيم نفسها وفي التواصل مع الداخل وتركت الأمراض التي زرعها النظام في أوصالها تفتك بها.
وعلى رغم التحذيرات وهول المآسي لم تتوصّل إلى أي صيغة حد أدنى من وحدة الصف والكلمة، ولم تزدها الدول التي رعتها سوى تشرذماً. إذا لم يكن ناقوس القصير كافياً لوضع معارضي الداخل والخارج أمام واجباتهم ومسؤولياتهم فإنهم بذلك لن يختلفوا عن النظام استهانةً بسورية ومصيرها.

* كاتب وصحافي لبناني.

Related posts

اللي استحوا ماتوا* فارعة السقاف

تجربة النضال الفلسطيني: خصوصية مقاومة تقاوم التعميم* هاني ابو عمرة

كلفة الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي* جواد العناني