الكوارث الكبيرة تبدأ في العادة من أحداث صغيرة غير متوقعة، التاريخ يقول ذلك. كثير من الحروب العظيمة والاحترابات الداخلية المهلكة عبر التاريخ انطلقت شرارتها من خلال أحداث صغيرة لم يكن لها ارتباط مباشر بصيغة الحرب الكبيرة، لكن دائماً كان في الجوار سحب من غازات كثيفة قابلة للانفجار في أي وقت تحيط بفضاء الشرارة الصغيرة.
المثال الأكثر وضوحاً على ذلك والأقرب زمنياً قصة محمد البوعزيزي. كان الرجل معدماً فقيراً لا يعرف الفرق بين الديموقراطية والديكتاتورية، لم يكن يعرف أن الرئيس السابق زين العابدين بن علي يُمسك بمفاتيح كل السلطات في بلاده، ولم يكن يعنيه العمل مع النخب السياسية والاقتصادية والثقافية التونسية للتخلص من «رب الدار» المتحكم في كل حركات الرقص، كل ما في الأمر أنه فقد فرصته اليومية الصغيرة في كسب رزقه، فقرر في عملية احتجاجية صغيرة أن يحرق نفسه نكايةً في القانون الذي لا يرحم الضعفاء، وانتقاماً من حظه السيئ وقدره المعتم. احترق البوعزيزي لنفسه، لكن الفضاء كان جاهزاً للانفجار بسبب أمور أخرى كثيرة وكبيرة لم يكن من بينها مكان «عربة الخضار» الخاصة به.
في تركيا جماعة بيئية صغيرة احتجت في إسطنبول على استبدال حديقة غازي في ميدان تقسيم بمركز تجاري جديد، هكذا تقول الأخبار، لكن التظاهرات الصغيرة أخذت تكبر شيئاً فشيئاً وخرجت من ميدان تقسيم لتطاول بقية الميادين في إسطنبول وغيرها من المدن التركية المهمة، وبدلاً من أن تحصر مطالبها في إبقاء بضع شجيرات في قلب المدينة الأشهر بتركيا، راحت تطالب بعزل «العثماني الجديد» رجب طيب أردوغان!
كان الأتراك «ربما» يحتاجون إلى قضية صغيرة مثل حديقة غازي والمركز التجاري الجديد لإطلاق شرارتهم الصغيرة في فضاء مملوء بملفات كبيرة جداً ظلت على الدوام قابلة للانفجار في أي وقت.
بدأ الربيع العربي بمأساة صغيرة لرجل معدم لا تعرفه الأخبار ولا يعرفها، وربما يبدأ الربيع التركي من خلال انتفاضة صغيرة لجماعة بيئية ترفض التخلص من المزيد من المساحات الخضراء.
الأحداث الصغيرة يتم تبنيها، والموجات العابرة تُركب لتصبح دائمة. لكل أمر بداية، ودائماً وكثيراً ما تظل البداية في هذه النوعية من الأحداث رهناً للصدفة وحدها، وحبيسة في يد مَن يعلق الجرس من دون قصد.
ارتكب العرب صدفتهم، وها هم الأتراك يخلقون صدفتهم التاريخية، لكن ما هو الفرق بين الربيع العربي والربيع التركي؟ ما الفرق بين الصدفة العربية والصدفة التركية؟
العرب – في النسخ التونسية والمصرية والليبية – ثاروا «شعوباً» ضد الاضطهاد والديكتاتورية والقمع السياسي والتأخر الاقتصادي، واستبدلوا الحكومات العلمانية في بلادهم بحكومات ترفع شعار الإسلام، انحازوا للمسبحة واللحية من باب استجلاب النقيض فقط ليحل محل النظام المغضوب عليه.
اتجه العرب ناحية «الشعاراتيين» الإسلامويين وهم لم يجربوهم من قبل، أملاً في تغيير واقع الحال البائس المعتم الفقير الذي أسهمت النخب العلمانية الحاكمة في تجذير وجوده لزمن طويل. ظاهر الربيع العربي إسلامي الهوى، بينما هو في حقيقته انحياز لعدو عدوي لأسباب اقتصادية في غالب الأحوال، كان لسان حالهم يقول: لا بد من أن يكون هناك خيرٌ ما في مواجهة «كل الشر» الذي نعيشه، ولم يكن هناك تنظيم يقف في مقابل «أسود» الحكام العلمانيين أكثر وضوحاً من «أبيض» الحركات الإسلاموية. أما في تركيا فالحال تختلف، ظاهر الأحداث يشي بأن هناك ثورة علمانية ضد محاولات «عثمنة» الدولة التركية من جديد، لكن واقع الحال يقول إن العثمنة والأسلمة ليست هي لب المشكلة. ما جعل الأتراك يثورون الآن هو ما كان على الدوام وطوال عقود يحفزهم على تنفيس خيبة «ديموقراطيتهم الديكتاتورية»، كان الجيش يقوم بهذه العملية بين حين وآخر، لكن بعد أن قلّم أردوغان أظافره عبر حزمة إصلاحات دستورية بحجة الخضوع لمتطلبات الانضمام للاتحاد الأوروبي، وتراجع دوره وصار عاجزاً عن التدخل في الحياة السياسية كما كان يفعل في كل مرة، تقدمت أطياف محددة من الشعب وثارت تقليداً وإرثاً تركياً. الثورة بديل للانقلاب العسكري لا أقل ولا أكثر.
ظلت الديموقراطية التركية أسيرة على الدوام لرعاية العسكر، جاء بها مصطفى كمال أتاتورك ووضعها في حضن العسكر، وعلى رغم التعديلات الكثيرة التي طاولت الدساتير التركية، إلا أن الديموقراطية الحقيقية لم تكن لتتحقق في هذا البلد الذي خلق نفسه من جديد في عشرينات القرن الماضي متخلصاً من إرث إسلامي كبير يبلغ من العمر أكثر من 600 عام!
اعتقد الأتراك لعقود أن الديموقراطية صنو للحداثة، والحداثة نقيض للتراث والمرجعية الدينية، وهذا ما جعل العسكر «حماة الديموقراطية» يقصون الإسلاميين دائماً في شكل ديكتاتوري وكلما حانت الفرصة من المشهد السياسي.
ظلت الديموقراطية التركية في حاجة إلى مَن يقف في صفها ضد الشعب، لذلك كان الدستور دائماً في صف الدولة ضد المواطن كما يقول أحد المؤرخين الأتراك الكبار.
وعندما جاء الإسلاميون الأوردغانيون إلى الحكم، قرروا الانتقام لأسلافهم الكبار تورغوت أوزال ونجم الدين أربكان، فبدأوا في صياغة ديموقراطية جديدة تختلف عن سالفتها بأنها تتظلل وتحتمي بالآيديولوجيا الناعمة بدلاً من التمترس خلف حديد المصفحة ونار الدبابة!
لكن المشكلة من جديد تتمثل في أن الديموقراطية كائن مستقل، يرفض الوصاية الآيديولوجية كما يرفض الوصاية العسكرية. العسكر ضد التأسلم، وأطياف كثيرة من الشعب ضد التأدلج، وما بينهما تقف الديموقراطية التركية حائرة بين الانقلاب والثورة.
الأتراك في ميدان تقسيم يرفضون المبنى الجديد على حساب أشجار حديقة غازي، لكن الفضاء يمتلئ بغازات كثيرة قابلة للاشتعال مثل المادة ١٢٧ من الدستور التي تحرم أطيافاً تركية كثيرة من التمثيل النيابي، ومثل العمل على تعديل الدستور بحيث تنتقل القوة التنفيذية من يد رئيس الوزراء إلى يد رئيس الدولة، الأمر الذي سيمكن أردوغان من أن يكمل مسيرة الانفراد بالقوة لأعوام مقبلة صانعاً مجداً شخصياً جديداً لا يقل لمعاناً عن المجد الذي صنعه أبو تركيا الحديثة بعد بقائه في الحكم لـ15 عاماً!
قد تستمر الثورة إلى أن تطيح بأردوغان وقد لا تستمر، لكن الأكيد أن شعبه خرج عليه، وهو القائل قبل أشهر قليلة في مقاطعة أقجه قلعة بتركيا: «من خرج عليه شعبه فليرحل!»
* كاتب وصحافي سعودي
toalhayat@hotmail.com