المؤكد بعد اجتماع اسطنبول أن «أصدقاء سورية» هم الأكثر انفصالاً عن الواقع، وليس بشار الأسد وحده، إلا اذا كان هؤلاء «أصدقاء النظام السوري» لكنهم كانوا منذ البداية يخادعون الشعب وثورته. فالأسد متصل بالواقع لأن قوات النظام تقاتل، بل يعرف أنها تخوض هجمات مضادة بمؤازرة الايرانيين في أكثر من موقع شمالاً ووسطاً وجنوباً.
أما «الأصدقاء» فيواصلون اللغو والثرثرة على «تسليح المعارضة» ووسائله وشروطه وقيوده، والأيدي التي يجــــب أو يجب ألاّ يصل اليها. غير أن المعارضة التي أشعلت ثورتها من دون أن تستشير أو تستأذن أحداً، وقبل أن يصبح هناك من يدّعون أنهم «أصدقاؤها»، ماضية في المواجهة ولا تحدّد خطواتها وفقاً لنتائج اجتماعات تُعقد هنا أو هناك في الخارج. فالمعركة والالتحام حاصلان في الداخل، على الأرض، مثلما كانت دوافعها وأسبابها ومقدماتها في الداخل، ولن يُحسما إلا بالظروف التي يوفرها الداخل، حتى لو حاول النظام تصدير مأزقه الى لبنان أو الاردن أو سواهما.
بعد نشر بطاريات صواريخ «باتريوت» لتأمين الحماية لتركيا، ثمة بحث في خطوة مماثلة في الاردن، وهذا مفهوم وضروري للحدّ من جنون النظام ومغامرات حلفائه الايرانيين.
أما اسرائيل فتصطنع الخشية من خطر وشيك، مع علمها مسبقاً أن أي تهديد لها من جانب النظام مستبعد وغير وارد، ولا حتى بسبب وجود الايرانيين و«حزب الله» داخل سورية.
في المقابل، عوملت مطالبة الائتلاف المعارض بـ«الباتريوت» وكأنها ضرب من الوهم والخيال، وأُخضع سعي «الجيش الحر» الى أسلحة نوعية مضادة للطائرات والدروع لنقاشات مستفيضة في اجتماعات لـ «الناتو» غلبت عليها الحجج السلبية، ومُنحت فيها اسرائيل كلمة مرجّحة، حتى أن بنيامين نتانياهو صرّح علناً بأن اسرائيل «تحتفظ بحق منع» تسليم المعارضة أسلحة «قد تغيّر ميزان القوى في الشرق الاوسط ويمكن ان تقع في ايدي الارهابيين». وكان نتانياهو استغلّ أحد لقاءاته مع باراك اوباما، خلال العامين الماضيين، للإلحاح على الاحتفاظ بنظام الأسد لأطول فترة ممكنة.
يبدو أن هذه التوصية لا تزال عماد الموقف الاميركي، وحتى الاوروبي، وقد ساعد الموقف الروسي المتعنّت على تأمين تغطية لها. وكانت ظهرت في الاسابيع الماضية مؤشرات فُسّرت على نطاق واسع بأنها قد تكون لمصلحة الشعب السوري. لكن هذا الشعب بات متيقناً الآن بأن الجميع يريدون استخدامه لأهداف لا علاقة لها بثورته ولا بمستقبله. اذ ظهر في السياق هدف استراتيجي يختصره أحدهم كالآتي: ما دام الأسد قد وقع وبادر هو نفسه الى تدمير سورية وإزالة كل خطر يمكن أن تشكّله لسنين طويلة مقبلة، وما دام الصراع في سورية استدعى تورّط ايران و«حزب الله» وتنظيم «القاعدة»، فإن المصلحة الاميركية (وبالتالي الاسرائيلية) أصبحت أكثر وضوحاً: استخدام سورية كمصيدة لإيران و«حزب الله» و«القاعدة»، ومن دون تدخل عسكري مباشر طالما أن القتال مشتعل في كل الأحوال… لذلك انصبّ الاهتمام أخيراً على ترتيب أوضاع الاقليم، لأن النظام وحلفاءه بلغوا اللحظة التي يعتزمون فيها تصدير الأزمة السورية الى دول الجوار، فإيران مدركة أيضاً أن هذه الحرب تتعلّق بها وبنفوذها، وهي تخطط بدورها لتحقيق نصر فيها. ثم إن تكبير الأزمة أو توسيعها قد يكون في نظر النظام وحلفائه الاسلوب الأنجع لتصغيرها، وصولاً الى الحصة الجغرافية التي يراها ملائمة لدى طرح التقسيم، وتُظهر معارك منطقة القصير في ريف حمص تصميمه على قضم هذه الحصة. وفي هذا السياق يخوض النظام معارك ريف دمشق تحسيناً لموقفه التفاوضي، مع ادراكه أن المساومة ليست قريبة ولن تكون سهلة.
تبدو الحرب وكأنها باشرت مرحلة جديدة، فمرّة اخرى يجد النظام أن الخارج يمنحه فرصة اضافية، وهو يستغلّها خصوصاً في اتجاهين: إبعاد الخطر عن دمشق لأن بقاءه فيها يشكل آخر مظاهر «شرعية» يدّعيها، واستعادة السيطرة في الريف الواقع بين العاصمة وحمص لتأمين خط مفتوح وممتدّ غرباً نحو منطقة الساحل والشمال الشرقي اللبناني.
وفي غضون ذلك، تواصل جيوب القوات النظامية مشاغلة المعارضة في مختلف مناطق الشمال لمنعها من إسناد قواتها في حمص والغوطتين الدمشقيتين. وتشير هذه التطورات الميدانية الى أن مساهمة ايران و «حزب الله» صارت حيوية وحاسمة، ثم ان النظام تعامل مع اعلان «جبهة النصرة» ولاءها لـ «القاعدة» باعتباره نقطة حاسمة لإقصاء تسليح المعارضة عن أجندة الدول الغربية، وكذلك لإطلاق هجماته المضادة.
لذلك تحوم الشبهات حول الخطوة التي أقدمت عليها «النصرة»، فعلى رغم أنها كانت ولا تزال على اتصال وتنسيق مع تنظيم «دولة العراق الاسلامية»، إلا أن السيناريو الذي اتّبع لدفعها الى الجهر بـ«قاعديتها» أثار الشكوك وطرح التساؤلات عن الجهة المستفيدة. ويعتبر خبراء في مكافحة الارهاب أن ايران وسورية كانتا منذ أواخر 2001 الدولتين الوحيدتين اللتين اخترقتا «القاعدة» ومنـــحتا عناصرها دعماً لوجستياً وتسهــيلات للتــحرك خصوصاً عبر العراق.
لذلك يُشتبه بأن ايران كانت وراء البيان المفاجئ الذي أصدره الفرع العراقي لـ «القاعدة» وأعلن فيه أن «النصرة» «تابعة» له وأنه على استعداد للاندماج معها تحت مسمّى «دولة العراق والشام الاسلامية»، مما استثار «النصرة» ودفع مسؤولها العام الى ما يعتبره واجباً عليه، أي مبايعة زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، من دون الاهتمام بتداعياته على المعارضة و «أصدقائها» الذين لن يكونوا أصدقاءه بأي حال. وبذلك تحققت الغاية التي توخّتها الجهة المحرّكة، بل توقعتها، ثم استخدمتها لاستكمال الاساءة الى المعارضة. وقد ظهرت النتائج في اجتماع اسطنبول.
وفي هذا الاجتماع، وجد الائتلاف المعارض نفسه أمام مطالب ملحّة، وكان عليه تأكيد نأيه بنفسه عن الارهاب وكأن «الاصدقاء» لا يعرفونه، ثم إنه كرّر التعهد بعدم وصول الأسلحة الى الارهابيين والمتطرفين، كما أن «الجيش الحر» طُولب بـ «عزل جبهة النصرة»، وليس مفهوماً كيف له أن يفعل ذلك اذا كانت «الجبهة» تقاتل الى جانبه في القصير، مثلاً، حيث يواجهان مقاتلي «حزب الله».
عدا هذه المطالب، وعلى رغم أن مسألة التسليح لم تُطرح جدياً في اسطنبول، فإن لائحة ما تجاهله «الأصدقاء» كانت طويلة جداً: استخدام السلاح الكيماوي على رغم أن بريطانيا وفرنسا تملكان أدلة عليه، تجدد نهج المجازر والأرض المحروقة كما في جديدة عرطوز وداريّا، تدخل ايران و «حزب الله»، استمرار القصف الجوي وبالصواريخ المحظورة دولياً… ومع أن الصراخ من أجل التدخل لمواجهة مأساة النازحين عمّ أروقة الأمم المتحدة، محاولاً استنهاض الضمائر، إلا أن اجتماع اسطنبول صمّ آذانه ولم يأتِ بجديد فيها، لأن روسيا تستغلّها أيضاً في ابتزاز مجلس الأمن. أما الضحايا فيبدو أن «الأصدقاء» قرروا التوقف حتى عن عدّها. وأما الحديث عن «الحل السياسي» فأصبح هو الآخر مبتذلاً، خصوصاً عندما يكرر الاشارة الى «اتفاق جنيف» الذي ينسى الجميع أنه يعود الى ما قبل تدمير المدن الكبرى وحين كانت الحصيلة الدموية أقل بكثير مما هي حالياً.
خلافاً للأعداء و «الأصدقاء»، وحده الشعب السوري يعرف ويؤمن بأن وحشية النظام، مهما بلغت، لن تنقذه. وعلى رغم كل الاختبارات التي مرّ بها هذا الشعب وتطلّبت منه أغلى التضحيات، لا يزال أمامه الأصعب والأشد، فالنزاع سيمتد عاجلاً أو آجلاً الى خارج الحدود كآخر ورقة سيحاول النظام أن يلعبها ليفرض المساومة على التقسيم الذي باتت ايران مع «حزب الله» من أوائل مؤازريه، جنباً الى جنب مع اسرائيل.
* كاتب وصحافي لبناني