استعرت هذا التعبير من كلمة الرئيس التونسي د. منصف المرزوقي، قالها يوم الأربعاء بمناسبة حفل أداء اليمين لأعضاء حكومة السيد علي العريض أمام رئيس الجمهورية وهو وصف أمين اختاره المرزوقي لحالة تونس اليوم، لكنه في الواقع ينطبق على عالم عربي ظل منذ عامين في مهب الريح، تلك الريح التي تبلغ حد الزوابع. بل إن تونس أقل عرضة للزوابع من سوريا وليبيا ومصر واليمن والعراق، فالعالم العربي يتعرض لمنطقة زوابع مختلفة القوة والهبوب ومتباينة المخاطر ونذر الحروب لكنها تستدعي منا الحذر واليقظة والتنسيق وتبادل المشورة وتوحيد التوصيف، لأن الغفلة عن هذه الزوابع قد تؤدي بنا إلى ما أدت بنا إليه غفلاتنا السابقة، وهي عديدة، لعل أخطرها حين أعمانا الصراع على الحكم وأكلتنا الفتن فاحتلنا استخراب صليبي منذ 1830 بدءا من الجزائر حتى مصر والشام والخليج وأصابتنا غفلة تاريخية ثانية حين انتهت الحرب العالمية الأولى بتقسيم أرض الإسلام على الإمبراطوريتين المنتصرتين فرنسا وبريطانيا ثم غفلنا بعد استقلال أراضينا إداريا وعسكريا في الخمسينيات فلم ندرك أن الاستخراب الثقافي والعقائدي حين انجلى عن الحقول فإنه استعمر العقول.
ولو تأملت الأحداث التي هزتنا عام 2011 وتدبرت أسبابها فإنك لا شك تهتدي للخيوط الموحدة التي تربط بين البلدان العربية التي تنعت ببلدان الربيع، حيث إنها جميعا عانت من حكم الأسرة الواحدة، لا في شكل ملكية مستقرة وعريقة ولكن بلبوس الجمهورية، فجاءت من هناك عبارة الجملكية لتصف أوضاعها اللقيطة بين نظام يدعي الجمهورية وانتخاب الحاكم وبين شكل هجين من تغول عائلة الماسك بالسلطة بجيش من الأبناء والأصهار تحكمت وتصرفت في قوت الناس وتلاعبت بأرزاقهم وأعراضهم، فكان أن تفشت البطالة واستشرى الفساد وعمت الفوضى وتمأسس القهر وضاق العيش، ثم جاء جيل الفيسبوك فكشف المستور وتطاول الشباب على محرمات الظلم فكانت مواقع التواصل الاجتماعي ثورة حقيقية في الأذهان والوجدان وبالطبع تابعت القوى الأجنبية العالمية والإقليمية تلك التغييرات المجتمعية العربية العميقة فحاولت جميعا أن توجه الأحداث نحو خدمة مصالحها الإستراتيجية بلا شك وهو أمر طبيعي ومن السذاجة أن ننكره أو نتناساه.
الذي حدث عام 2011 هزة عنيفة، لا على سلم السياسة فحسب، بل على سلم الحضارة وسنرى التوابع على إثر الزوابع تذهب بالأوهام الوردية وأحلام اليقظة لتطرح معضلات التنمية المصحوبة بالعدالة الاجتماعية ومشكلة توزيع الثروة الوطنية بالقسطاس والقضاء الصعب على الفساد وتعويض حكم العائلة المتغولة بحكم القانون وحكم العصابة الفاسدة بسيادة الدستور. وهنا لا بد أن أثني على جهد د. سهيل العلويني الطبيب الجراح الذي أسس مع نخبة من الشباب العربي جمعية للشفافية والحوكمة الرشيدة المفتوحة.
إن هذه الغاية المشروعة للخروج من منطقة الزوابع تستحق خطة عقلانية توافقية يشترك في وضعها وفي تنفيذها جميع المواطنين من خلال مؤسسات سياسية ودستورية تؤطرهم وبواسطة منظمات مدنية تمثلهم حتى تكون الخطة شاملة وناجعة لا تقصي خصما سوى من أقصاه القضاء أو صندوق الانتخاب لجرم ارتكبه أو مال أهدره أو دم أهرقه ولذلك وجب التنبيه إلى خطر الإقصاء الانتقامي حسب الوظائف في العهود السابقة، لا حسب الوزر الشخصي فإنه يفتح أبواب إعادة أخطاء العراق بعد 2003 حين تم تدمير الدولة العراقية عوض القضاء على نظام البعث وحده فخسر العراق جيشه العريق ونكب الشعب العراقي في جامعاته وطاقاته العلمية المتقدمة وانهارت مؤسسات الدولة في قطاعات الطاقة والبنية الصناعية وهاجر العلماء والخبراء من وطنهم لاستحالة العيش في كنف الفوضى ثم جاءت الطائفية البغيضة لتملأ الفراغ فالتحق العراق بدول الفوضى التي زعموا بأنها خلاقة.
ولنأخذ نموذجا، ما يقع اليوم في وطني تونس بعد أن انفجرت الحناجر بالرأي الحر وكانت مكبوتة وبعد أن انتخب الناس مجلسا لوضع دستور جديد وحكومة لتصريف شؤون البلاد وانظر حولك في الشارع وفي الطريق لتكتشف أن الخروج عن القانون أصبح لعبة وطنية مفضلة بدءا من تجاوز الإشارة الحمراء إلى البناء الفوضوي على أرض الغير وصولا إلى ترويع الأبرياء بالنشل والعنف واستفحل الأمر بانتشار تجارة السلاح خفيفة وثقيلة ومأسسة التهريب لكل أصناف البضاعة مما خرب التجارة وانحرف بالزراعة وهمش العاملين فيهما وجعل الأسعار لا تطاق إلى أن تمت تصفية الشهيد المناضل شكري بلعيد على أيدي مجهولين فانفلت الأمن ثم تحول إلى الهاجس الأول والمطلب الرئيسي للناس وحين استقبلني رئيس حكومة تونس في مايو 2011 نصحته بأن يفرد الأمن بوزارة تسمى وزارة الأمن والأمان، لأن بسط الأمن هو الضامن لكل شيء فلا استثمار ولا سياحة ولا اقتصاد ولا تعليم بلا أمن المواطن وفي حزبنا الاتحاد الوطني الحر وضعنا إنشاء تلك الوزارة في طليعة مطالبنا واليوم يبدو أن جميع النخبة التونسية تبنت هذا المطلب بقدر من التأخير وأكده وزير الداخلية الجديد. وكل هذه الزوابع تهب علينا في تونس رغم أن بلادنا بحمد الله ولطفه لم تبلغ درجات الصراعات المسلحة المفتوحة التي نراها بكل أسف وحزن تزعزع مجتمعات عربية أخرى. ونلاحظ أن ما يجمع أيضا بين هذه المجتمعات هو غياب الدولة القوية العادلة التي كان من المفترض والمتوقع أن تحل محل الدولة المستبدة الجائرة فأصبح المواطن العربي المسكين يعاني ويلات جديدة عوضت الويلات القديمة ولا يرى بصيص أمل ونور في نهاية النفق الطويل المظلم. ثم إننا نشهد هنا وهناك في أرجاء وطننا العربي الكبير ظاهرة التردي الأخلاقي السياسي في اللغة والمصطلحات والسلوكيات حتى كدنا لا نعرف أوطاننا من جراء تراكم الأحقاد وتدافع الأحزاب وتنابز الناس بالألقاب مما حول الحوارات إلى ساحات وغى تبعتها أعمال عنف خارج القانون وخارج الدولة. إن الزوابع التي ذكرها المرزوقي عمت عالمنا العربي ونسأل الله أن ينجو منها أهل الممالك العربية التي تعايش فيها القوم بعيدا عن الصراع المرير حول رأس السلطة والتي تعتبر ملوكها رموز وحدة قلوب وتأليف ضمائر واشتراك في المصير وتعاون على البر والتقوى.